ا. محمد الصالح التومي
محامي و ناشط سياسي و كاتب مهتم بقضايا المواطنة و الفكر القومي العربي / تونس
…” لقد دلت التجربة في كل العصور على أن تخصيب التراكم المعرفي الداخلي بواسطة عناصر ثقافية خارجية لا يمكن أن يحقق نتائج ذات بال إذا لم يقع هضم هذه العناصر الثقافية الخارجية وإدراجها في النسق الخصوصي واستبطانها استبطانا كاملا بحيث ينتج عن عملية التمثل السليم فكر جديد نابض بالحركة ومن شأنه أن يُمكّن من إحداث النقلة المطلوبة في حياة الشعوب فيجعلها تسهم إسهاما إيجابيا في تطوير المجرى العام للحضارة الإنسانية.
وهكذا فإن تحقيقنا مثلا كأمة عربية لمثل هذه الثورة الثقافية الحقيقية هو الذي سيجعلنا معاصرين لأنفسنا ومنطلقين من ذاتنا التي تصبح بهذه الصفة بداية من ماضينا الأسطوري السحيق إلى حاضر هزائمنا وتحفزنا وحدة خلاقة ومسارا مسترسلا تتضح بداخله انتصاراتنا بمثل ما تتضح به عثراتنا، فيكون بإمكاننا أن نسعى إلى فرض نديتنا على الآخر وإلى جعله يقبل بنا كما نحن لأننا نكون قبل ذلك قد تعلمنا كيف نقبل – كما هي- بأنفسنا في مسار العمل على تغييرها وإصلاح أخطائها، واسترجعنا من ثمّة الحلقات المفقودة أو المبتورة والمغيبة لوعينا بذاتنا، واهتدينا إلى المنهج الوحيد الموصل إلى النهوض الحقيقي وإلى تجاوز مكامن الضعف التاريخي في مسيرتنا، ألا وهو منهج الصراع الإيجابي والتفاعل الخلاق في نفس الوقت مع الغير كما مع ذاتنا.
إن ما يجب أن نفهمه كأمة عربية هو أن محاولة الثورة الثقافية الجبارة التي جسمتها جهود النهضة العربية للقرن التاسع عشر من التقويم الميلادي والتي جعلتها تطمح إلى أن تصرخ : “كالبركان الهائل… من أجل إزعاج دعاة الجمود الذين ما زالوا يغُطّنون في نومهم” على حدّ عبارة الطاهر الحداد، سرعان ما تردّت في إشكالياتها الداخلية ووجدت في تعرجات الثنايا داخل ثنائية الأصالة و الحداثة ما دفعها نحو السقوط في أوحال التوفيقية والتردد، فهناك تعطلت حركتها وضاعت أنفاسها وعادت لتستقر في أغلب الأحيان في نفس المواقع التي حسبت أنها غادرتها…
إن معركة النهوض الحقيقي لا يمكن أن تحسم لفائدة الشعب والأوطان دون خوض المعركة بجدية ضد المكبلات الجبرية الفاعلة على الدوام في حياتنا الجماعية، بل إننا ما لم نخض هذه المعركة بصفة فعالة لاتنقصها الحكمة فسنبقى :
- نعيش ما يسمى بالاستلاب في الزمان حيث نعتبر الحاضر ماضيا والماضي حاضرا، وندور في حلقة مفرغة لا تنفتح على المستقبل الذي تستحقه أمتنا على غرار ما تمكنت منه الأمم الضاربة في القدم مثلنا التي حققت نهضتها وأسباب بقائها وقوتها كالصينيين والهنود واليابانيين والروس والإيرانيين… وغيرهم.
2.نضيع الجهد في التوفيق بين متناقضات التراث غير المقسم بصفة منهجية إلى ما هو إيجابي وسلبي فيه، فينشأ عن ذلك ترددنا في حسم المسائل ثم تلفيقنا للمفاهيم التي أنتجناها سابقا مع المفاهيم التي أنتجها غيرنا في حاضرنا دون استيعاب الفروق العلمية والعملية والتاريخية بينها،
3.نراوح نفس المكان معيدين بصورة فعلية إنتاج سلوك المرجئة واللاأدرية الذي لا يتطلب استحضاره جهدا كبيرا لكونه مازال متأصلا فينا.
لقد خضنا معركة النهضة في مختلف الأدوار والتقلبات التي اقتضتها منا إلى حد الآن بمواجهة الذات بمعاصرة الآخر دون تمثّل حقيقي لمنجزات هذه المعاصرة إلا في شكلياتها، وبمواجهة الآخر بأصالتنا دون فرز ما هو إيجابي وما هو سلبي في مركباتها إذ اكتفينا بقشورها، وقد فشلنا في هذا المسعى فشلا واضحا وذريعا.
فيقتضي منا الأمر اليوم مواجهة الآخر بمعاصرة عقلانية تضرب بجذورها في ماضينا، وبمواجهة الذات بأصالة عقلانية تمتد في خط مضيء حتى حاضرنا وتتشابك كليا او جزئيا حسب المواضع مع عقلانية غيرنا ، فبذلك فقط يكون بإمكاننا أن نتحرك ككتلة حضارية عرفت انتكاسا في لحظة من لحظات تاريخها، وأصبح بمقدورها استئناف الإسهام الخصوصي والخلاق في المسيرة العامة لبني الإنسانية…
وبعبارات أخرى فإنه من الواجب أن ينتصر اليوم دعاة العقل في تاريخنا المعززين بمكتسبات العصور الحديثة كونهم ساهموا فيها – وما أكثر هم رغم ما قاسوه من الاضطهاد! – وذلك قي المعارك التي كانوا خاضوها ضد الجبريين من دعاة الجمود وأعداء الاجتهاد انتصارا منهم في زمانهم لمقام العقل، ولقدسية العمل ،و تحقيقا لتحرير إرادة الإنسان في ظل ضوابط الكون، وهي المعركة التي كانوا للأسف فشلوا فيها، فلم يتسنّ لهم أن يرسموا معالم بارزة ولا تمحي في مركبات هويتنا الجمعية التي بقيت نهبا في غياب ذلك لخصومهم ينفثون فيها ما شاؤوا من أفكار وممارسات جمودية مكبلة لأية نهضة حقيقية.
وهذا يعني بعبارات أكثر بساطة إعادة إنتاج توجهات هؤلاء الرواد وتحيينها تحيينا خلاقا والتموقع من جديد في مواقعهم ولكن بأدوات منهجية ومضمونية متجددة لأن معركتهم كانت ولازالت معركتنا، ولأن فشلهم كان ولازال فشلنا، أما نجاحنا فسيكون أيضا نجاحا لهم يستحقونه ولو في غيابهم.
ليست المعركة إذن بين الجمود المسمى أصالة وما هو كذلك، لأنه مجرد اغتراب في الزمان، وبين الانبتات المسمى معاصرة وما هو كذلك، لأنه مجرد اغتراب في المكان، فهذه معركة زائفة ومخسورة في الحالتين ولا تخدم سوى مصلحة من يريدون استعبادنا…
و إننا لن نتصالح مع ماضينا ولن ندخل العصر لفائدتنا ما لم نفهم أن معركتنا الحقيقية هي معركة بين العقلانية واللاعقلاتية، وبين المنهج واللامنهج…
فعندما نعثر على خطاب لمنهجنا، ونوفر لعقلنا ظروف الانتصار، فإنه سيكون بإمكاننا أن ننتصر عندئذ وفي نفس الوقت على الاستبداد الذي يسلطه علينا بعضنا من داخل ذاتنا، وعلى القهر الذي يسلطه علينا الآخر من خارج ذاتنا.
محمد صالح التومي-المعروفي.
من كتاب : ” أمة لن تموت”: من أجل نفس نهضوي عربي جديد عقلاني ومقاوم.مطبعة آرتيبو – تونس ،ماي / أيار 2010.