نعمه العبادي- العراق
تفرد القرآن الكريم في كل شيء فيه، شكلا ومضمونا، ألفاظا وقواعد، صياغات وانساقا، معارفا وقضايا، وكل ذلك يؤكد ويظهر: ربانيته، ووحيانيته، وكامليته، وخاتميته.
ومن موارد تفرد طريقته في العرض لسيرة الانبياء والاولياء، بل وحتى الجبابرة، عرضه لها عبر فلسفة المواقف، إذ عالج هذه السير بأشكال مختلفة من ابرزها:
– ذكر الشخصية في سياق موقف مهم في موضع واحد وبنص متصل (وجاء من اقصى المدينة رجل، قال يا قومي اتبعوا المرسلين).
– التعرض لها في مواضع متعددة من القرآن بصياغات مختلفة ومضامين متشابهة من حيث شكلها الخارجي في بعض الحالات، لكنها في كل ذكر تؤسس لفهم مختلف، يمكن الوصول إليه عبر السياق الجزئي لموضع الحادثة، والبناء الكلي للسورة.
– الذكر المجزء والمبثوث في مقامات مختلفة، وعبر تدرج خفي، يمكن من خلال عملية ربط ذكية تكوين لوحة متكاملة عن السيرة.
وفي هذا الاطار لا بد من الاشارة الى ملاحظتين مهمتين:
الاولى: تفرد سيرة نبي الله عيسى عليه السلام بطريقة سرد عالجت تفاصيل حياته من حيث ولادة امه السيدة مريم رضوان الله عليها الى حين رسالته، ويمكن تعليل ذلك ب:
أ. جاء الاسلام عقب المسيحية، والذي يعني ان الديانة الشرعية الى ما قبل ظهور الاسلام هي المسيحية، مما تطلب عناية في معالجة كل ما يتصل بالمسيحية ليبان وضوح خاتمية الرسالة المحمدية ونسخها للديانة التي سبقتها، وليكون الخطاب الموجه لاتباع المسيحية وافيا وكافيا في تحقيق قناعاتهم ودعوتهم للاسلام، ومن ابرز موجبات هذا الاقناع، عرض شخصية نبي الله عيسى عليهم بالطريقة التي تحقق هذه الغاية.
ب. عرض الكتاب المقدس سردية منتظمة لسيرة نبي الله عيسى عليه السلام، وكان للرؤية القرآنية نظرة مختلفة لهذه السردية خصوصا في فكرة التثليث وقضية الصلب وموارد اخرى، الامر الذي اقتضى عرضا مناظرا لما ورد في الانجيل.
الثانية: تتعلق ببعض الموارد من السيرة التي يظهر فيها للوهلة الاولى عدم الاتساق الظاهري بين مواضع ذكر السيرة، والذي يحل من قبل البعض بمحاولات تأويل متعسفة، إذ ان الحل الصحيح، يقتضي اعادة ترفيف وتنسيق الحدث بشكل يتطابق وروح المنهج القرآني، فهذا القرآن من عند الله جل وعلا وهو مبرء من الاختلاف والتضاد.
ان هذا المنهج القرآني المتفرد، والذي يتعرض للسير من حيث موقعها في الهدف الكلي للقرآن الكريم (هدى للناس وبينات من الهدى الفرقان)، وهي متطلبات الوصول الصحيح إلى الله جل وعلا في مسيرة الكدح الانساني الى العلو الرباني، يطرح إنموذج معالجة، لا بد من السير وفقه عند التعرض لسيرة اهل البيت عليهم السلام.
وفيما يتعلق بمولودنا الذي اشرق نوره في ليلة الخامس عشر من رمضان، لا بد ان يتم مقاربة سيرته من خلال المحددات الاتية:
– موقعه في خارطة المشروع الرباني الاكمل، والذي يقوم على التخطيط المنظم لقيادة البشرية نحو هدفها الاعلى، وهو المجتمع الاكمل او المعصوم عبر تكامل عناصر هذا المجتمع من خلال جماعة المؤمنين.
– مكانته في مواجهة مشروع الانحراف والزيغ الشيطاني والذي تعود جذوره الى ذات التاريخ للمشروع الالهي، وتحديدا ما يتعلق بمشروع الضلال الشيطاني بعد وفاة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
– صورته المقدسة في اطار نموذج القدوة الحسية لتجسيد مفاهيم وحقائق الدين القويم الى جانب اهل بيته المعصومين عليهم السلام، واهمية هذه القدوة في مسيرة الكمال الانساني.
– دوره في انتاج الجزء الخاص من السيرة المعصومة التي تمثل عدل القرآن الكريم، والتي تكاملت صورتها مع سيرة الاربعة عشر المعصومين جميعا، حيث ستكون هي والتفسير المهدوي للقرآن الكريم دستور وقوانين حياة المجتمع المعصوم، ومن قبل ذلك هي مصدر التشريع الثاني للمسلمين.
ان تدوين سيرة للائمة على وفق هذا النموذج من المحددات يقدم حياتهم الربانية في سياقها الصحيح والامثل، ضمن مسيرة الكدح الانساني الى العلو الرباني، وتجسيد مظاهر الاسماء الحسنى.
مبارك لكل المؤمنين ومحبي اهل البيت عليهم السلام ولادة سيدي ومولاي الحسن المجتبى عليهم السلام.