حُلُمٌ غامِض…
رَجُلٌ يحملُ جثمانَه
يبحثُ في الليلِ عن قبرٍ…
كي يدفن روحه…
صحراءٌ شاسعةٌ..
لا شجرٌ إلّا مِن عَوسجْ…
يحفرُ في الرملِ..
فيعودُ الرملُ إلى ماكان عليه
تَسَلَّقَ…
وضعَ الجثمانَ على شجرة…
غادرَ….
في الصبحِ…
أيقظنَ عصافيرٌ جثمانه…
كان يمدُّ يديهِ لعصفورٍ
عوسجةٌ تُدمي كفّيهِ…
ملأتْ أشواكُ العوسجِ جلده…
أصبح كالقنفذِ…
عصفورٌ أبلهُ قال….
سأعيركَ بعد غروب الشمسِ جناحيَّ
لكنكَ جدُّ ثقيل…
كيف سيحملكَ جناحاي؟
تحتاجُ بُراقاً…
يحملُ هذا الجسد الموبوء بحزنٍ دائم.
عاد الرجلُ لبيته..
ويدورُ بهِ الحُلُمُ كثيراً..
ويُعادُ المشهدُ مراتٍ عٍدّة
استيقظ قبل بزوغِ الفجرِ…
ماوجدَ يديه…!
……. ………..
د. جليل البيضاني
البنية الفكرية للقصيدة:
يرسم الشّاعر القدير لوحةً سريالية غرائبية الأجواء فنرى بعين الخيال رجلاً يحمل رفاته في مشهدٍ ليلي حالك الظلمة و هو يفتش عن لحدٍ يواري فيه سوءته، لكن الشاعر يوقعنا في حيرة هل سيدفن الجسد أم الروح؟!
(رجلٌ يحمل جثمانه) …(. كي يدفن روحه)
الروح تحمل البدن لكن الرجل سيدفن روحه….
يتركنا الشاعر نجول مع الرجل أثناء حلمه الفنتازي في صحراءَ مترامية الأطراف لا نبات و لاشجر فيها غير العوسج الشوكي الشائك و كلما حفر في الرمل يعود الرمل رافضاً أن يحفر فيه أصابه اليأس فوضع جثمانه فوق شجرة و غادر دون إيضاح لوجهته، صباحاً العصافير توقظ الجثمان و كأنه يتوسل الأمل من عصفور فيمدُّ يده إليه لكن أشواك العوسج تغطي جلده فيصبح كالقنفذ و يتعاطف معه عصفور وصفه بالأبله الفاقد للعقل أو الإدراك فوعده أن يعيره جناحاه عندما تغرب الشمس لكنه يستدرك إن الجسد ثقيل و الجناحان غير قادرين على حمله خاصةً وقد أثقلته الأحزان (تحتاج براقاً)
و البراق الحصان المقدس الذي أسرى سيدنا محمد(ص) و هو طلب المعجزة و في الحلم يعود إلى بيته و يتكرر المشهد كلما هجع طلباً للنوم لكنه يكتشف إنه بلا يدين إشارة لفقدان الفاعلية و العجز و عدم القدرة على القيام بالأفعال و الحلول.
**السريالية في الشّعر العربي الحديث هو أحد الاتجاهات الشّعريّة الحديثة في الأدب العربي و تعتمد على التحرر من القواعد العروضية الأوزان التقليدية كما قرأنا في حلمٍ غامض
إضافةً إلى التكثيف في المعاني(يحمل هذا الجسد الموبوء)
و اعتماد إيقاعاتٍ جديدة و بلاغة مختلفة لتكوين الصور الشعرية ١
و يوجّه الشاعر لوحته السريالية كإدانة واضحة للمنطق و النظام في عمله الفني(عوسجة تدمي كفيه)
و كأننا نرى حلم فتنازي مفترض لا واقعي إذ إنّ المنطق في السرياليّة يجب أن يكون بعيداً عن تفاعلات روح العالم الخارجي و يجب أن يمنح اللاوعي بعد تحرره من الوعي الدور الأكبر في تشكيل النص و صياغته٢
فالشّاعر يتماهى و حلمه فيغادر الوعي ليتذرع بالحلم
خصائص السرياليّة في قصيدة حلم غامض:
١. التأكيد على أولية الّلغة :
يؤكد الشاعر إنّ الّلغة إحدى أهم وسائل التعبير و العمل بالنسبة للإنسان و هي تنبع من أعماقه و تمتزج بأفكاره و تنطق معبرةً عنه لهذا السبب هي لغة حرّة.
٢. الاعتماد على الكتابة اللاإرادية :
إطلاقاً من مبدأ الكتابة خارج سيطرة الإرادة و الوعي و تشبه طريقة الكتابة هذه الأحلام’ و هي وسيلته لاكتشاف ذاته و المناطق اللامحدودة في أعماق شخصيته فاعتمد على تهميش الوعي و ترك التخطيط المسبق للكتابة و أنظمتها التقليدية فنراها و كأنها فوضوضية عبثية دون نظام أو ضمان أو رقابة اجتماعية و بذلك هي فيض اللاوعي المتدفق بحرية تامة.
٣. الاعتماد على الخيال:
السرياليّة هي نوعٌ من الثورات الثقافية على قيود الفكر فقد أتاح الشاعر تعديل سلوكيات الإنسان الحديث و جسد عملية التصالح بين الحياة الواقعية و الخيال و حل التناقضات بينهما و بلغ ما وراء الواقع
لذلك تطلع إلى الحصول على شكلٍ مختلفٍ للحياة و رؤية جديدة من خلال التحكم بشروط الإدراك و الاعتماد على مقاربة حديثة للأشياء أشبه بفتنازيا حداثية.
د. آسيا يوسف
مصادر
١. سلمى الخضراء الجيوسي /الاتجاهات و الحركات في الشعر العربي الحديث/ ص ٥٤٣ بتصرّف
٢. أدونيس /الصوفية و السوريالية /ص ١٣٧ بتصّرف.