أكرمني استاذي الذي أجله وأقدره الشاعر واللغوي النحوي البارع عبد الفتاح شحاته(عبده شحاته)، بكتابة مقدمة لباكورته الأدبية (قراءة في رؤي المشهد) عن مجموعة قصائد ونثائر فنية حلق عبرها بفنية تصل أحيانا حدَّ الإدهاش للقارئ، ورغم أَن هذا هو الإصدار الأول لعبد الفتاح شحاته وندرة نتاجه، إِلا أَن عوامل النُّضج الأدبي والفني شاخصة في نصوصه، وتنبئ عن أديب برع في اقتناص الفكرة والصُّورة الفنية، وشدِّ القارئ وإدهاشهلقد حاولت ما استطعت من أجل تناول العلاقة بين اللغة والتفسير والتـواصـل مـن زوايـا مـتـعـددة.وبعبارة أخرى حاولت أن أطوف بالعلاقات المتبادلة بين هذه الكلمات لما توليه صنوف الخبرة ما ينبغي من النقاش فاستقطبت المدينة جهد الشاعر واستدرجته وبدأت مفاتنها وشرورها الآسرة تأخذ شكل الغواية التي يصعب مقاومتها مع أنها كانت مفتوحة علي الريف لكنها استجابة للقلق العميق الذي ينتاب المتأمل المشغول بصناعة توجهنا وتفكيرنا في ضوء اللغةقصائد يمكن أن نصفها تجاوزا بأنها قصائد شعرية مصورة أو مجسمة أو منغمة أقرب بطبيعتها إلي النحت في كلاسيكية الشعر. ولو قلبت في تاريخ الفن والنقد والأدب لعثرت على نصوص كثيـرةتـقـرب بـين الفنون وتلتمس الوحدة المشتركة بينها في البناءوالغـايـة عـلـى الـرغـم مـن اختلافها من حيث الترتيب على سلم القيمة ومدارج القدرة على التعبـيـربـيـد أن الحـديـث عـن قـصـيـدة الـصـورة حــديــث مــحــفــوف بــاﻟﻤﺨــاطــر والإشكاليات و المقارنة بين القصيدة والأصل الفني الذي حاول الشاعر أن يصفه أو يسجل خواطره عنه، أو يعبر عن انـدمـاجـه فـي جـوه وروحـه أو يجعله مناسبة لنقد العصر وقيمه. هذه المقارنة نفسها ليست بالأمر الهين البسيط فهي بقدر ما تتيح لنا الموازنة بين عملين فنيين ومعايشتهما في وقت واحد تفتح اكثر من باب تهب منه رياح الاسئلة
عيناك آخــر سجدة صليتها
ومــن السجــود تبتــل لهوا (عيناك)ص8وام الاسئلة هي العيون لأنها ام الدروب نصنع منها قلعة الأفكار في صوفية مطلقة كناية عن التقديس والعبادة في تبتل وهوي ،والذي يعيش قريبا منها إما أن ينفرد بعلاقة حميمية أو يهتم بوجوده في كينونة تأويلية وحواجز وهمية تضرم نيران الجوانح في الدم ولهذا لا نسلكها دون عناءوحتي لا يكون المشهد عابراً في تأويل الشاعر عبده شحاته بين سكر العيون وماهية الشعر يرسم من خلاله لوحة يسقط فيها المعني هاوية الحس لنعيش حالة من الإرباك المتغير بحرفية وابداع تألق فيها فسطرت رقيقا مألوفا
يقتلنــا الشــعــر فنكتبــــــــه
ألــوانـــاً منـــا وحـــــروفـــا (يقتلنا الشعر) ص10ثم عاود بقرع الدرب نفسه يفند مساوئ الادعاء وأن لكل جمال شروط واحكام للتعبير عن حال معنوي وأن لا صبر علي اعوجاج فإن المنطوقات التي يجري نسيانها تعود علي النحو الأخطر علي شكل خطاب يخلو من المعني أو الكلام فعلاً أو احتمالاً يكسر الحالأمـــــــور تحكــــــــم الشعــــراوتجعــــل منـــــــه بستــانـــــــا (موازين الشعر)ص13صورة أخري بلغ بها الحد من الحضور أو المثول لتأكيد العلاقة الميتافيزيقية مع الغير بنسيان الكينونة وغدا كائن ما يشكل مبدءا للفكر ، يعبر عن هوية الشعر منذ القدم وأنه منفتح علي الوجود وفق ميزان يطرح إيمان القضية التي عاش من اجلها في اللحظة نفسهاقل للجمال إذا سكنت وريدهاهل للهوى عطر كعطر جمـان (قل للجمال )ص15
صورة أخري رائعة تنمو فيها اللغة بوصفها علاقة قرابة عميقة ما تزال محجوبة عنا
يرفع فيها الشاعر لغة الجمال في تساؤل مستمر محاولا استقراء المستقبل في أصالة من الدهشة والشك في ما أجمــل الدنيــا إذا هي أقبلت فتراها تتجه صوب معان لم يخلفها سوي وضع فكري محكوم باستعدادات متضاربة تقتفي آثار الكينونة الضائعة عبر الفاظ تكسر حدود المفهوم من الكلماتولــــي في العشــق تجــربــةولــــــي في الشـــوق أركاني (ولـي في العشـق)ص16تجربة نحسها ذاتية الهوي حسب المتعارف عليه من المفاهيم يضعنا فيها الشاعر عبده شحاته علي شواطئ اللا مفكر به اللا معقول بعد فالعشق هنا هو الذي حطم اسواره ليوقفناعلي العراء خارجه كأنما لغة الشاعر في أقصي نضالاتها دون اية دلالات للتعبير عن الخسران ،أتــــــرين حين ..أطيــــــل التبتل ..بمحراب عشقك ..تكــــوني مللت ..مـــــن الانتظار ؟ يميناً …. كذبتوخابت ظنــونك ..حين تغار…..(تجل)ص17هي صورة تخلص فيها من كل مفاهيم التعبير وادواته المعهودة ولغة الدال وحدها في( أترين )هي القادة علي أن تكون حيز الما يحدث عندما يتقدم علي كل المدلولات عندما يخلفها وراءهدون أن يحاذر من السقوط في وجودية مسطحة بل عمد إلي سلوك يبقيه علي علاقة صميمية لا تقمعه ولا تمتصه يدرك أفعاله وتصوِّر حاله فإذا هو الـمُتيَّم وكالطِّفل بين يديهاقـــــد تنفســـتك ســــــحــراً
والمـــــدى فيــــك القصــيـر (جمال)ص19
صورة أخري تبتعد عن المصطلحات المألوفة وتغير اتجاه البوصلة العشقية ويظهر الإبداع جلياً فيها لتعبر عن رؤية قد لا تستطيع اللغة العادية توصيلها أو الإفصاح عنها وإذا افترضنا أن التأكيد القائل ( اللغة موطن الوجود )فإن الشاعر يدرك أفعاله وتصور حالهحقـــــاً أطــــيــر؟/ زججتهـــا/ آه يــا دمعـــي/ لحني الخطيـر/ كالسكـــير/ عاشـــق فيـــــك تجلــــى/ ظمــــآن السعير)) والواقع أن هذه الاستجابة هي الطريقة المخصوصة لشاعر راقص الموت في إشراقة الوجود ،ولم يقتصر علي ذلك فقد خاطب في قصيدة (وطن) ص22علله ومعلولاته في تأويل يؤل إلي إيضاح معناه عندما تسيطر الفكرة التي تنقذ من المعاثر والمهالك والمخاطر فيعتزم( الرحيل في قصيد رحيل )ص24مثلما الغيوم في لغة ضبابية هاربة تجنب كلفكرة عن خصوصيته بل ارتحل وراء الدلالات بواسطة وطواغت اللمم المسجى ..في غياهب من حمأ بتقنيات المجاز ليضاعف امكانات اللغة ويجعلها أكثر قدرة علي الإبانة من خلال لغة حريصة جدا لتجنب كل فكرة عن خصوصية الإرادة/ العقل/الوعي/ الحرية ويضاعف هذا المعني في قصيد (أتيتك)ص28في تلقي هبة الوجود إذ بقي متحصناً في اللغة كمسكن أو بالأحرى في قلعته اللغوية إقامة دائمة يتلفظ بين العبارة والعبارة تراتيل خاصة لكن الناس بالعجب صوفية خاصة أيضاً حتي ليبدو أن فلسفته هي التي تحتكر لوحدها حق فهم وتأويل الحقيقة ليؤكد الصورة في قصيد (عام جديد) ص31 والخروج بدائرة الحياة من مخبأ ميلاد الإنسان إلي مجموعة من العناصر (الفونوتيكية)فحين نفكر في الزمن مثلا فإننا عادة ما ننطلق من ماض ممتد بطريقة لا متناهية إلي مستقبل متناه وهذا ما يرفضه الشاعر عبد الفتاح شحاته ويعتبره فهما خاطئا للزمن فينادي ويكرر النداء في قصيدة( تعال) ص34 ليكون المستقبل هو الزمن المحوري تعال فكن/تعالي الغاب/دعيني منهما/ دعيني اقول في مواجهة الزمن الأقصى إن زماني سينتهي وإنا كزمن اموت في أكثر الممكنات يقينا وانني في الحالة المزاجية للقلق أكون علي وعي بأنني أعيش في مواجهة النهاية فالوجود وجودي وإن اختفيت فإلي العدم ليكون هذا هو التاريخ الذي وصفه الشاعر في قصيدة (قراءة في رؤي المشهد)ص40 قد يشهد التاريخ ..يوماً منصفاً ..كيف القناع يزول وهي تشكل بناءاً جوهرياً للإنسان فهو بطبعه ليس كائنا عارفا يخضع للصيرورة والزمان بل يتعرض للثنائيات الثلاث( التواجد/ الهم ، الوقائعية/القذف ،الخسران/السقوط مما جعله قريبا من هذا العالم يمنح الإقامة لكائنات فانية ولحن شجي يعبر عن ما تخبئه بداخله صيرورة الاحداث يا سميراً كنته ..هذا التجلي هاته الكأس فنثمل وأنتش في الوجع حرفي ! الذي يتم استدراجه إلي الخارج في قصيدة (تبت يدا)ص49 تبت يدا . تبت يدا تبت يدا غامرة في تاريخ الفكر بل فهم المعني وضرورة الخروج منه وعليه ضرورة كسره .لماذا؟ لأن محتوي القصيد في دلالاته البعيدة والقريبة خطاب تفكيكي يستمد مبرراته ومشروعيته من المطالبة لنفسه بهذا الوضع الفريد إنه خطاب لا كالخطابات المعروفة فمتي سترسو ذي الموانئ لمستقر ؟ بهذه الوضعية الشاذة وحدها طالب الشاعر لنفسه امتياز السفر في قصيدة (الطير المسافر)ص54 لينال امتياز الإعفاء والتحرر من إكراهات للغة الاستدلال والبرهان ليتمكن من الاحتماء في غياهب ومتاهات لغته ويكتسب نوعا من الحصانة تدفع عنه كل اعتراض في ظل المسكوت عنه فيه لتتوالي بقية النصوص بين مستقبل وحاضر وقد كان بعيداً عن احتواء اللغة للملفوظ والثرثرةلذا استلزم الحفر في متاهات الشعر عند الشاعر عبد الفتاح شحاته والتنقل في خفايا الشعري هناك حيث الظلمة الشديدة في قصائده والكلمة الفلسفية العميقة بعيدا عن نمط الكتابة الشعرية ومسائلها المتعلقة بالكتابة والوزنولا أدعى بهذه القراءة ،إنى أصبت كثيراً بقدر ما أثرت من نقاط ،وإن ما فيها من جهد يغفر ما فيها من نقص
والله ولي التوفيق
محمد عبد العزيز شميس