الأديبة أميمة إبراهيم
اكتسحَتْ ليلي الأوهامُ ، وعربدَتْ فيه ، فاختلَّ نهاري . كان لابدَّ من حلمٍ يتمرّغ ببهائه في منازل الأحلام ، بعد أن تفتّتَ الحزنُ بين أصابعي ، وانسربَ مع خطواتي . وصارت ذاكرتي لوحَ وجود تطالبُني أن أباشرَ أبجديتَها وأدعَها تنكتبُ قصائدَ أو موسيقا أو رقصَ فراشات.
كنت أعرفُ أنّي إذا التقيت به وكان حنانُه عامراً سأنداحُ كقطرةِ ماء ، وإن كان همسُه موسيقا سأصيرُ مدرّجاً موسيقياً ، ولو كان عطّاراً سأفوحُ في أبهاء روحِه و أتعتّقُ . ولو كان خماراً سأصير كأساً مترعة !.
لكنَّ الخوفَ أن يكون صياداً ، وقتها سأطيرُ لأنّي لا أحبُّ الصّيادين.
وحقيقة كنت أرغبُ أن يكون في حياتي عازفٌ ماهرٌ كي أرقصَ له ، وأن يكون سريري غيمةً كي أهطلَ في عمره مطراً ، و أتنقّلَ في فضاءاتهِ ، و أتخزّنَ في عروقه.
وهكذا أسرجْتُ حروفي مهرةً تسابق الزمن إليك…وخلفَ ستارة الحلمِ وقفْتُ ، فاستفاقت ألحانُك الغافياتُ في موسيقا لمّا تعزفْها بعد.
كنت تحتاجُني أن أرقصَ ، وأُعيدَ ترتيبَ حياتِك وفقَ إيقاعاتِ الرقصِ ، وكانت في روحي ألحانُ كمنجاتٍ تصلي وأوتارٌ ترقصُ حافيةَ القدمين ، تحثُّ الخطا على وقع نبضِها و إسرائِه إلى سماءِ البهجة ، كي تشدَّكَ إلى حقولِ الفرحِ . لذلك عقدتُ منديلَ الصّبواتِ على خصرٍ فاضَ بنشوة الرّوح ورقصت…رقصتّ ! .
أما للرقصِ كلامٌ وأبجديةٌ وبوحٌ يعقبُه طيران ؟!.
فأيّ الرّقصاتِ أهديكَ والأنغامُ أسكرَها الحنينُ ، والشوقُ في الخلايا خفاقاً يعربدُ ، ومن راعشِ الوترِ يتدفّقُ اللحنُ ميّاساً بالهوى ، مترنّحاً على لازوردِ القلبِ يرتجي لحنَ أغنياتٍ موّاراً بالشّغفِ .
هي ذي موسيقاك تنهمرُ فتهبُني عالماً من النّشوةِ و السّموِ ، وقدرةً على التّحليقِ ، تجعلُني أتسوّقُ فرحاً من حوانيت الغيم .
أبسطُ ذراعيّ، أضبطُ أنفاسي ، وأبدأُ الرّقص . وما إن يتوافقُ النغمُ مع حداءِ روحِك حتّى أصبحَ خفيفةً كطائرٍ ، و أستسلمُ للانعتاقِ خارجَ حدودِ العالمِ ، وأرتقي بجسدي فيصيرُ أداةَ وصلٍ بينَ الأرضِ والسّماء.
أدورُ ، أنحني، أرفعُ رأسي، يتطايرُ شعري، أنقرُ بقدمي فأسمعُ صوتَ ناقوسٍ يضجُّ في فضاءِ ريفٍ جميلٍ ، وأشعرُ أنّ جسدي ما عاد ملكاً لي . مع كلِّ خطوةٍ يخرجُ من إساره ، ويحطّمُ قيودَه ويرتقي إلى أمكنةٍ أشدَّ لهفةٍ ، ويعانقُ الأقمارَ في مجراتِ الكونِ ، ثمَّ يعودُ ويغتسلُ بالفرحِ ، يستعيدُ الحبَّ رشفاتٍ من رحيقٍ وكوثر.
كم صلّى جسدي وهو يرقصُ للحريةِ … للإله المتجسّدِ في الرّوحِ ، الذي يجعلُ بواباتِ الجمال تتوقّدُ بالشّهوةِ ، وتهطلُ أناشيدَ جنون !.
الجنونُ يعلّمنا لغةَ الحياةِ ، وهمهماتِ الطّبيعةِ ، وهمساتِ الموجِ !. لذلك نتوقُ إليه ونحتاجُه.
أرأيتَ رقصي في دنياك مع بوحِ الكمنجاتِ كيف حوّلني إلى مجنونةٍ ؟!. حتى أنّي صرتُ أغارُ من جسدي لأنّ عينيك تمسحان بحنوِّ النَّظرةِ ، وجمرِ الرّغبةِ تضاريسَه.
لكنّي أيقنْتُ أنّي سأبقى أفتشُ دوماً عن مفرداتٍ ساحراتٍ ، يرقصن إذا ما عزفتَ ، ويشتعلنَ إذا بردتَ ، وإن كانَ الحرُّ صرنَ موجاً وبحراً.
*******************
أذكرُ أنّك يومَ سلمتني مفاتيحَ سنينك ، صرْتُ سجّانَ دمعتِكَ ، حارسَ بوحِكَ ، وصرْتُ أشتاقُ غناءَك ، وأنتظرُ منمناتِ روحكَ ، تفيضُ بها عليّ ، ولوحاتِ فسيفساءٍ تصنعُها أناملُ ودِّكَ ، كي لا أعلّقَ على جدرانِ القلبِ إلّا ما تبدعُهُ يداك.
وأنا… أنا كنت أحتاجُ سنينَ عديدةً ، لأرسمَ لوحةً تليقُ بحضورِكَ ، وأطرّزَ على عباءةِ اللهفةِ زهراً يشتعلُ بتوقّدِهِ ، أو لأغزلَ من عبقِ الحكاياتِ خيطانَ محبتي قميصاً من حريرِ المعاني ، يبوحُ للقلبِ المعنّى بأسرارِه المخبّآتِ منذُ أوّلِ لهفةٍ .
قلتُ لكَ يوماً : ضفافُ روحِكَ تكتنزُ بطفولةٍ استباحَها الوجعُ….. ثمّةَ عشبٌ حنون يدعوكَ كي تستحمَّ بنداه ، تمرّغ القلبَ بخضرتِه ، تخلع عن جسدِكَ ثوباً هاجمَه قحطٌ ، وباغتَه حزنٌ . فدعْ روحَكَ تتعشقْ مع روحي ، كي تتفجّرَ ينابيعي .
ذاك أنّي سأعيدُ ترتيبَ مفرداتي احتفالاً بفارسٍ يخطفُني وعلى غيمةٍ يحطُّ بي ، يدثّرُني بلهفتهِ ، ويمسحُ بحريرِ كفّيه مساماتي ، ويرمي جلّنارَ حبّهِ في دربي ، ومن ياسمينٍ نامَ في مفارقِ العطرِ ، يعبئُ الرّحيقَ و يرتشفُني .
فإذا ما هطلتْ بالفرح ِالغيمةُ ، بين يديه وسّدَني ، وعلى ضفافِ الشّغف يسقي نخيلي ، أو يستظلُّ بفيءِ صفصافي ، يُسندُ الظّهرَ التماسَ راحةٍ ، على جذعِ صنوبرةٍ ، مازال عطرُها في الخافقِ يبوحُ بأسرارٍ وأسرار .
مازالَ عطري يتوحّدُ مع جسدي كي ينفذَ إليك فلا تستطيعُ الفكاكَ من أسره . وما زالت روحي تلبي النّداءَ الآتي من جزرِ مودّتِكَ ، فأعرفُ أنَّ لي في عمرِكَ جزيرةَ حبٍّ تسعُ فرحي وتحولاتي وآمالي وعزفي وغنائي .
وما زلنا مجنونين يسقيان الذاكرةَ من غيمٍ عاشقٍ كي تخضرَّ الحياةُ .