عندما تتشظى الصرخة ..والفم مغلق ..أي مصير في انتظارها ؟الى اين تذهب ياترى ؟وهل لها عودة ؟هل تموت بكل ماتحمله من حياة ،أم تحيا بألف موت ؟
غصن ياسمين ..وإكليل غار ..وسرب حمام .
هذا هو عشقي ،بل من القضايا الكبرى التي يألفها شاعر نبضه يراع وقلبه صفحة بيضاء وكلام بلا نهاية .
نعم ..قالت وقلت ،والدمعة جرح ،وأحزان على جناح الريح ،وساقية من وجع .
نعم ..نائمة ..وكل المدن غريبة ،والزمن أقبح من قبيح ،ومشنقة علقت على جيد وطن مذبوح ..والوجع آه وأبعد .
نعم ..على إحدى الضفاف تم إغتيال الوهم ،وكم باح الجلنار بكوارل من ماء وندى وخيبة ..وكم بقيت الرسالة على ثغر غريق ..يردد صداها نحيب ..
والصرخة ..(بفم مغلق)
******************************
قيل أن الشاعر مارد جبار ،ينازل الشاعر دون استئذان ،وهنا يأتي دور الشاعر ذي الخبرة والمراس مسخراً كل ماوهب من قوة وحنكة لجعل هذا المارد مطواعاً سهل القياد ،حلو المزاج ،حينها تكون تكون القصيدة وساماً على الصدر تسمو بها الأخلاق.
************
برقة العاطفة ومقاربة الوصف يتدفق بوح الشاعر القدير الدكتور “جليل البيضاني ” حبراً منساباً كعذوبة شلال في بيادر الورق ،حيث تطل اللوحات مغسولة بضوء حنين يزدرد أمام عينيه اشتياقاً يؤخذ بالرؤى للدروب الطافية على قامات السنين ..
(للأمانة ..توقفت طويلاً عند عتبة الديوان الفضفاضة (صرخة بفم مغلق) سحبتني اصداء تلك الصرخة الى لجتها ..تألمت ذاك الفم المغلق كيف تلاشت ستائره ووجوهه..بطبيعة وأقنعة في أن معاً،وسرعان ماتوغلت من شرفة البوح الذي ربما يبدأ بالولادة ولكن لاينتهي عند حدود القبر .
*****************
ليس غريباً على الشاعر جليل امتلاك الحساسية الرفيعة لكل مايدور حوله ،فهو لم يصور الاحساس بالحرف فقط وإنما بالصدى في دقائق الحياة ،بكل مفارقاتها وكأنه لصيق شخصيات أثرت به الى حد الاندماج كنوع من المطالبة بالعدالة ،فقد تجلت القدرة على اعتماد البوح بروعة التعابير ليفتح دروباً في القصائد ..للحياة والحب والحلم . فكم من قضايا شاملة ملقاة على عاتق المبشر برسائل الحب والسلام والوئام الداخلي ..إنه باختصار …..الشاعر .
********************
لاسرمديات في النصوص ،فالبروق الخاطفة لها ارتكازات على ارض الواقع ،وهذا من فضيلة الصدق بين العقل والعاطفة على الرغم من تباين مسار الحنين ووميض الأمنيات .فكل فكرة عند الشاعر جليل هي ملك لحظة ..كما ان اللحظة هي جزء من الأبدية كما صاغها الأديب (جبران خليل جبران )
ثمة اكتشافات جديرة بالتقدير بغية تجميل الحياة وشحذها بالقدرة على التعامل معها ،إضافة الى افكار وصور يعلو ضوؤها على مشاعر فياضة سكنت القلب ولم تترمد ،ولم يخف أوراها رغم مرور الزمن .
يكمن خلف الشاعر عواطف انسانية حولتها الأيام الى ذكريات فيها ألم وحزن ،حضور وغياب،إلفة الوطن والأهل ،ودهشة الغربة ومفاجآتها ..تلك الغربة التي تغلغلت في اعماقه لسبب أضاء محور حياته كغاية وفضيلة .
*************
يقول الأديب “برسي شلي”:أعذب أغانينا هي التي تعبر عن أكثر أفكارنا حزناً”.هنا يتم امتزاج اللغة الشعرية التي احتوتها رهافة الحس وحساسية الحلم بتداخل الاجتماعي والذاتي والوطني .
يشير الشاعر جليل بصوت مداده عالياُ مستنكراً كل المظاهر الغارقة في الضلال والطفيان وعبثية هذا الكون وشمولية مظاهر الألم الإنساني في البشرية جمعاء..حيث جاءت معظم نصوص الديوان مثقلة بإحترام ذات الوطن الذي يعشقه ويخاطبه ويناجيه لتعكس الروح الحميمية والعلاقة التي لاتتجزأ ،صرخة حية في وجه من يحاول زرع الفتن ،وهذا بالطبع ادب انساني لايأتي إلا عن طريق رؤية الحياة رؤية كلية ..بل امكانية ظهورها وظواهرها ..
-يقول المثل:قبل أن يخلق الله العالم بألف عام خلق الشاعر ،والمخيلة ملكة مرتبطة بما يحيط الماضي والحاضر والمستقبل .وهي الدافع لاستلهام الألفاظ المجردة ،ففي الديوان قصائد تمتاز بقوة التكثيف ووفرة المفردة الدالة ،واعتماد جانب من الأسطورة له دلالة الحب والبعث والخلود .
-في القصائد ،لايمكن الفصل بين الهم الذاتي والوطني فتارة يلبس القصيدة عشقاً للوطن وتارة للحبيبة بأسماء شتى تنوعت في أوطانها الحنين والوفاء لأمكنة هي بمقام بشر بعشق أكبر .
-نعم ..إن التغني بالأمجاد ،واستصراخ الألم من لجة الجراح ،هو عشق وقضية شاعر يحمل القلم كما جندي في ساحات القتال ..وهذا ماأكسبه مدارات جلية وخطوط تشمل جزئيات الحياة ..الحب ..الأرض..
الناس ..المرأة التي تبقى معادلة موضوعية للوطن .
– النصوص بالتأكيد هي حصيلة الكثير من النجارب في حقب زمنية محكومة بمواقيتها ،تحمل تداعيات تعكس اللحظات في الأحداث ،كأن الزمن يعيش في نبض ذاكرة متقدة على الدوام ..وحاضرة للمثول حين استدعاء النداء في كل ماتناقض من صور الحياة .
************
نعم ..هو الحب .تلك اللحظة التي تشرق في الأعماق .لتنسي ماقبلها .
لقد تمنى (رسول حمزاتوف)أن يعيش أكثر من حياة لا لشيء إلا ليزرع حباً أكبر ..حباً قليل الكلام حيث يقول :(يكفيني أن يظل حبي حياً في قصائدي)
والحب الذي زرعه شاعرنا القدير “جليل البيضاني”من حوله لم يكن لينمو بدون الشعر ،حيث النوافذ مطلة على حكايات مبللة بالحنين ،مشبعة بالحياة ،وكثيراً من لحظات تأمل يمنحها بصدقه الى محطاته العديدة مع. منمنمات وجودية تقوم على لملمة الأثر من ضفيرة القلب ليغرسها في مرايا الروح .
بعض الأناشيد تصلح للحياة ..ولو بان أكثر عمق الجرح المغموس بالملح ..ولو كانت الصرخة (بفم مغلق).
****************************
صرخة بفم مغلق ..ديوان جدير بقطف جماناته الوارفة بفواغي ندية ..
نمضي وتستبحونا مجامر الرؤى ..ونعاني من خيانة اللغة رغم تدفق أبجدية القول ..كلمات في حروف ..حروف في أضلع الورق ..وورق لايأفل من عشق اليراع ..ونشيد يصلح للحياة رغم كل الوان الموت المارق من هنا …ومن هناك..(لاهجرة للأرواح إلا الى …أرواحها)
****************
فائق الإحترام والتقدير للدكتور الشاعر جليل البيضاني والأستاذة الشاعرة أسيا يوسف لمنحي شرف الثقة لوضع بصمتي المتواضعة على الديوان كقارئة تحب السفر في أصقاع الحكايات وفضاءات الحروف ..
آمل ان اكون قد وفقت في قراءتي ..ولم أبخس حق ماقرأت ..
التوفيق الدائم للشاعر جليل وللمزيد من الإبداع ان شاءلله ..
دمتم بخير وسعادة أسرة الملتقى الراقي (عشتار الأدب الشامل )
نهله البدوي /طرطوس/
2020/4/13