يعد اللمس احد اهم حواسنا الخمسة واسبقها في تشكيل خبراتنا عن الحياة من اول لحظة لوجودنا فيها والى آخر نفس يتحرك في صدورنا، ومع امكانية التعويض والتعايش عن كل الحواس الاخرى إلا ان اللمس الحاسة الاكثر ضرورة، والتي تكاد الحياة ان تكون متعذرة بفقدانها.
يحتاج الحديث عن هذه الحاسة وما يتصل بها الى مئات الدراسات والابحاث والتجارب لتغطية اسئلتها العلمية والمعرفية، لذا يقتصر هذا المقال على مقاربات خاصة ومحدودة تتعلق بحدود عنوانه، وحتى في اطار هذه الحدود يبقى الامر مقتصرا على الاشارات التي تفتح الباب لمزيد من التفكير والتساؤلات.
بعيدا عن مصفوفة الوظائف التقليدية المتعلقة باللمس، يعد اقتران اللمس بالوجدان احد اسرار التكوين الانساني، إذ يقوم الجلد بدور الوسيط في جملة من احاسيس الوجدان، وينتج عبر صور التماس المختلفة: (اللمس البسيط، اللمس العميق، القرب والتداني، الالتحام والعناق، الذوبان والاستغراق، الدفع والابتعاد)، أنحاء من الاشارات التي تذهب الى مصفوفة الرموز المختزنة في ذاكرتنا الاجرائية، لتنتج اشكالا مختلفة من السلوك.
يشكل المس عنصر اشباع وتوازن لحاجات عاطفية معقدة، فمهما كانت حرارة وبلاغة الكلمات لا يمكنها ان تداني قدرة المصافحة او مشابكة الايدي، بل ادنى درجات اللمس، فضلا عن صور الالتحام والعناق، إذ تكثف هذه الحالة سيلا من اللغة الخاصة التي يستطيع طرفا التماس (المتصافحان، المتعانقان،… الخ) ان يفهماها بوضوح وعمق اكثر من اي لغة اخرى، ويمتلك العناق على وجه الخصوص قدرة عجيبة في التكثيف والاستيعاب، فهو لجهة التكثيف يرسل مشفرات متداخلة جدا قادرة على ايصال ألف رسالة ورسالة في لحظة وصل واحدة، ولجهة الاستيعاب يقدم طيفا واسعا من الاحساس بالوان مختلفة في لمسة واحدة.
تعود هذه القدرة المميزة للتماس في الوصل والتوصيل الى الكفاءة العالية للاستقبال والالتقاط من جهة والى عمق وغزارة ما يرتبط بالتجربة الحسية (اللمس) من رموز وتصورات، نشكلها من خلال التجربة الواقعية والمتخيلة المبدعة.
تهمل مناهج التربية وادبيات الحياة المتداولة مكانة المس في بناء كيان الحياة الفردي والجماعي، ويندر ان تجد مقاربات مهمة لهذا الجانب، ومعظم ما موجود عنها يتمثل في التعبيرات الذاتية للتجارب الشخصية، مع اشارات خفيفة في هذا المورد او ذاك، في مقدمتها الاحاديث المتعلقة بمعالجة الغضب.
وبمناسبة الاشارة الى موضوع معالجة الغضب، يؤسس الحديث المروي عن اهل البيت عليهم السلام : (إن الرحم إذا مست هدأت) الى منهجا نفسيا متفردا، يكشف عن خصوصية لفاعلية المس في الغضب مقيدة بعلاقة المحرم، ففي كل صورة يكون التماس مباحا ومشروعا، يؤدي المس هذه الوظيفة العجيبة في امتصاص الغضب وتهدئة النفوس، ويكون بمثابة السلك المسرب للشحنات بطريقة غريبة، وهي احد النعم الربانية التي تحتاج الى توظيف حكيم في حياتنا، فلنبادر الى توظيفها بشكل اوسع واكبر في ظل حياتنا المشحونة بالمهاترات والحماقات.
يفعل المس فعلا عجيبا في : (بناء الثقة بالنفس عند الملموس، والطمأنينة من الخوف، والمساندة الصادقة، والرغبة في الوصل، والاقبال الشديد، والحميمة العالية، والاعتماد المؤمن، رفع الالتباس، وتصحيح المواقف، الاستقرار الروحي، موازنة الاضطراب الجسدي، تحفيز القدرات الجسدية، تهييج اللواعج الروحية، المواساة، الالتجاء، التعبير عن الحاجة،… الخ)، إذ يملك موشورا من الخصائص والامكانات، يلبي كل منها نحو مما تمت الاشارة إليه من الادوار والمواقف.
تساهم ثقافتنا الشعبية والنخبوية في الشرق في تحجيم مكانة المس في حياتنا، وتغيب ادواره المؤثرة عن مختلف علاقاتنا، ويقدم في غالب الاحيان بطريقة مخطوءة، الامر الذي يحتاج ان نستعيد مكانته بجهد فردي عبر الاستكشاف المتتابع لمعطيات هذه الممارسة العجيبة في محتواها.
واذا كان ما سبق من خصائص المس يتحرك في اطار الوجدان، فإن درجات من العمق لوظيفة اللمس وخصوصية الملموس ودوافع التماس، تنقله الى مقام العرفان، فقد ورد في حديث عن امير المؤمنين علي عليه السلام: ان المسح على رؤوس اليتامى يرقق القلب، ومما لا شك فيه، ان رهافة القلب اول درجات العرفان.
يمكن الذهاب بعيدا في ما يمكن تحصله من وعي ومعرفة من خلال تحويل احاسيس المس المقصود الى وعي بمحتواها وما ورائياتها.
ختاما: اكثروا من التصافح والوصل، وبادروا الى توظيف هذه النعمة الربانية العظيمة في استثمارها بشتى مجالات حاجتكم الوجدانية والعرفانية، وتذكروا ان عناقا دافئا حميما قادرا على توصيل ما يريد بلغة ابلغ واسلوب اصدق واعمق من ألف قصيدة ومدونة وعبارة منمقة، بل ان جميع اللغات تعجز عن التعبير عن لمسة كف في لحظة ما.