كشفت (الخطابية) عن علاقة وثيقة بين بنية الخطاب والنظام الاجتماعي المنتج فيه، واكدت على تغلغل سلطة البنى الاجتماعية في طيات الخطاب، وهيمنتها على شكله ومضمونه، لذا اتجهت مناهج التحليل إلى البحث عن المقاصد والكيفيات والانا قبل وما بعد الخطاب من خلال تجاوز الكتلة اللفظية التي تنتظم عبر الجمل والمفردات.
اتاح نموذج الحياة في امريكا والغرب ظروفا جيدة لاشكال مختلفة من الحوار البيني لدى اوساط المجتمع المختلفة، وشجع نظام الجامعة والمدارس والمرافق العلمية والثقافية فضلا عن النمط التربوي الذي تشكلت فيه شخصية الفرد على حرية الادلاء بالرأي، ومناقشة قضايا الحياة بقدر من الاهتمام، تفاوتت، بحسب الظروف والقضايا وجملة محددات اخرى، وقد ساهم الاعلام النوعي وفي مقدمته التلفزيون في توسيع مساحة النقاش ثم جاءت وسائل التواصل الاجتماعي التي تقوم على فكرة التفاعلية، ففتحت الباب على مصراعيه لنقاش مفتوح ولا نهائي.
مثلت الايدلوجيا المادة الاساس التي شغلت الحوارات البينية في الغرب والشرق كصدى له خلال اكثر من سبعة عقود من القرن المنصرم، وهكذا طبعت الاعلام والفن وكل مظاهر الحياة، طبعا هذا لا يمنع من انشغالات اخرى اخذت مساحة مهمة في الحوار البيني، وتعد المظاهرات والحركة الطلابية في ستينيات القرن الماضي المظهر الاهم لهذا النقاش، واتسم حوار الايدلوجيا بإنطلاقه من مركزية الدولة بوصفها الفاعل الاهم في الامن والعلاقات والتنمية، كما انها اخذت طابعا تعبويا جمعيا، وجرت معظم الحوارات على شكل خنادق واضحة المعالم.
لم يكن التحول الذي جرى بعد انتهاء الحرب الباردة سياسيا فحسب، بل هو تحولا عميقا مصدره مقاربة مختلفة لفهم تحديات ومؤمنات الامن الفردي والجماعي، ثم زامن ذلك، تحولات عميقة في الاجتماعي والثقافي، وقد اثرت القفزات الهائلة للتكنلوجيا في كل شيء، بل اعادت تصميم كل شيء على وفقها.
بماذا يتحدث الشباب الغربي اليوم في اروقة الجامعات والمرافق العامة وفي مواقع التواصل وفي الحوارات البينية، وماذا يمكننا ان نستدله من الشكل الجديد لهذا الحوار؟
مثل الاحساس المتعاظم بالفردانية، السمة العامة لهذا العصر، وتزايد الاغتراب والعزلة حتى في قلب التجمعات الصاخبة، إذ اصبحت ال (انا) الفرد هي الدالة الاساس لفهم مستوجبات الامن ومتطلباته، وهي نقطة المركز في كل حوار مهما كان عدد المشتركين فيه، وحتى الشؤون العامة، اصبحت تقارب من منطلق ال (انا)، فالعالم اليوم افرادا تضمهم دول، وليس دولا فيها افرادا.
ان هذا التحول العميق لم يأت من فراغ او من نزوع نفسي ذاتي بسيط، بل كان للنظام الاقتصادي والسلعي ومسارات الانتاج والبيع دورها العظيم في سحب الافراد الى مساحة الذاتية التي تشكل حاجات لا متناهية للطلب، تسمح بالاستمرار ابدا في الانتاج والبيع والربح، وقد تآزر الاعلام المملوك قلبا وضميرا لرؤوس الاموال مع هذه السردية وركزها في نفوس المجتمع، وتبعهما الفن من خلال الهيمنة على الانتاج.
وبعد ان تجاوز الغرب متطلبات الحرية بحدودها الموضوعية مثل الحرية السياسية والاجتماعية والدينية، والثقافية، وبدرجات متفاوتة، انشغل الحوار البيني الجديد في رغبات تحررية منفلتة تمثل نزوعات فردية لا متناهية في ظل صراخ مجنون (جسدي، ذاتي، وانا حر فيه، افعل ما اشاء به، لا بد للجميع ان يحترم ويصغي لتصرفي، الخروج عن المألوف مظهر ابداع)، وقد شكلت هذه المرتكزات بنية تحتية للسلوك والخطاب بشكله المنظور في كل الفضاءات العامة والخاصة.
تتسيد قضايا الجندر وفي مقدمتها موضوع التلاعب بالجنس والعبور الجنسي وما يصطلح عليه بالمثلية، واجهة الحوار البيني، ليس بوصفها تحديات حقيقية ومتطلبات امنية، بل بوصفها مخرجات مشوهة لهذا النزوع الفردي المنفلت، ونحو من الثورة المدعاة تجاه ما هو قائم بغض النظر عن موضوعية واحقية ما هو قائم، وينفلت هذا النقاش لينزاح الى تشكيل بنية خطابية لفظية ورمزية، تسد منافذ الفضاء العام بصورتها المتداولة.
ان مركزية الانسان مقابل مركزية الله والتي مثلت المقولة الاساس للحداثة، وصلت الى اعلى درجات المغالاة فيها في عصر ما بعد (بعد الحداثة)، إذ اصبحت هوية (لا ديني) النموذج الاقدر على استيعاب تطلعات هذه الاجيال بحسب الادبيات الناطقة بإسم المرحلة.
ورغم ان الحرب الروسية – الاوكرانية، اصبحت فرصة سانحة لاستعادة الايدلوجيا كمحور للنقاش العام، والدولة كوحدة اساس للامن إلا ان عمق الانزياح الفردي بات عصيا على كل محاولة، لذلك صار الموقف من الحرب، يقارب من الزاوية الفردانية، اي من خصوصية امن الفرد وليس امن الدولة.
ومع ان معظم الشباب الشرقي تنقصه اداة اللغة للتواصل او معرفة الحوار البيني الغربي إلا ان عوامل عدة سهلت عليه عملية التواصل في مقدمتها القدرات التكنلوجية التي تقدم خدمات الترجمة واشباهها، وكذلك نمط وشكل التطبيقات والبرامج المستخدمة يساعد في خلق منطقة مشتركة، كما ان طغيان الرمز والصورة كأداة لغوية عابرة، سهل في هذا التواصل، والذي يقف الشرق فيه كمتلقي سلبي يتفاعل مع انكساراته النفسية والسياسية.
ان نزعة التشبه بالغرب مهما كان، والشعور بالدونية، وعدم وجود نخبة عملية تنتج خطابا خاصا لاوساطنا، ساهم بشكل كبير في جعل نسختنا الشرقية صدى باهت لنسخة الغرب المنزلقة تجاه النهايات المنفلتة.