بقلم جيل كيستيو Gilles Questiaux*
ترجمة: علي ابراهيم
19/9/2023
يتساءل البعض لماذا يجب أن ندعم روسيا بدلاً من أوكرانيا، أو عما إذا كان يتوجب أن نتحمل المسؤولية عن اتخاذ موقفٍ محايدٍ تماماً في هذا الصراع الذي يتواجه فيه نظامين قوميين لهما نفس القدر من الضرر.
تجدر الإشارة إلى أنّ الموقف الأخير يقتضي، على الأقل، معارضة توريد الأسلحة إلى أوكرانيا، الذي يطيل دون داعٍ أمد نزاعٍ نتيجته العسكرية لصالح روسيا بدون أدنى شك، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين ليسوا تحت تأثير وسائل الإعلام الرئيسية. ومن المحزن قول ذلك، أنّ قلةً قليلة من هؤلاء النشطاء اليساريين الذين يساوون بين المعسكرين قد بلغوا هذا الحد الأدنى المطلوب.
بالنسبة للشيوعيين، فإنّ دعم روسيا يعني أيضاً السكوت عن لدغات الثعابين التي يقدمها لنا فلاديمير بوتين، والذي لا يفوّت أبداً فرصةً لإظهار نفوره من لينين بطريقةٍ فيها جحود كبير، حتى من وجهة نظره ، لأنه يمكن القول أنه بفضل البلاشفة بقيت أوكرانيا وروسيا مرتبطين خلال القرن العشرين، علماً أنّ القوى الانفصالية المنظمة من الخارج نجحت بالفعل في فصل أوكرانيا عن “العالم الروسي” منذ عام 1919.
وبالنسبة إلى مفهوم “العالم الروسي”، فإنّ هذا المفهوم يعود للمفكر الروسي الرجعي دوجين (الذي تم اغتيال ابنته على يد الاستخبارات الأوكرانية في آب/أغسطس 2022) وهو ليس سوى محاولةٍ لاستعادة الوطنية السوفيتية التي لا تزال قوية في كل الاتحاد القديم، مثلها مثل استعادة العلم الأحمر باعتباره “علم النصر” غير المسيّس.
يمكننا دعم روسيا في الحرب في أوكرانيا، دون تأييد الخطاب الأيديولوجي الذي أنتجته روسيا لتبرير هذه الحرب، وهو إنتاج غير مجدٍ بالنسبة لنا لأنّ الحرب بالفعل مبررة بشكلٍ كبير بسبب الاستفزازات المتكررة لحلف شمال الأطلسي وكييف وبالمصالح القومية الحيوية لروسيا التي يتعين عليها مواجهة مشروعٍ رسمي لتقطيع أوصالها.
يبدو أنّ الهدف بعيد المدى للاستراتيجية الغربية الموحدة (الغرب: أي ثالوث العالم الأنجلو ساكسوني، وأوروبا، واليابان) هو تفكيك أو إنهاء أية مجموعةٍ جيوسياسية قد تتصرف بشكلٍ مستقل وتتحدى هيمنة الغرب بشكلٍ كلي أو جزئي، أي كل الدول الكبرى، بدءاً بالصين وروسيا، كما تفعل إسرائيل في نطاقها الخاص من خلال زرعها الفوضى في العالم العربي والإسلامي على مدى 75 عاماً. إنّ الإمبراطورية الغربية تتعرض للتهديد الموضوعي بسبب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية للجنوب وتسعى إلى الحفاظ على هيمنتها من خلال تجزئته إلى أصغر وأضعف كياناتٍ ممكنة، كياناتٍ أكثر قابلية للتلاعب بها وممارسة النفوذ عليها، تماماً مثل بلقنة إفريقيا في وقت الاستقلال حوالي عام 1960. كما أنها تسعى إلى غزوه من الداخل من خلال قولبة نخبه. الشيء الوحيد الذي منعها حتى الآن هو العنصرية المتعصبة العميقة واللاواعية للطبقات الحاكمة التي تظهر في لغتها الوعظية والمنافقة: إذ أنّ برجوازيات الجنوب والشرق التي لم تطلب شيئاً أكثر من الاندماج والمشاركة في العيد في أفضل عالمٍ من عوالم الليبرالية التكنولوجية تم رفضها دون أي احترام، من خلال التذرع عموماً بالكلام الفارغ حول البيئة وحقوق الإنسان والمرأة والأقليات الجنسية.
طوّر الغرب الذي يمر في المرحلة الأخيرة من الإمبريالية اقتصاداً طفيلياً استعمارياً جديداً، وقام بتوجيه الإنتاج الصناعي إلى الخارج واستعان أيضاً بالطبقة العاملة الخارجية. إنّ الرغبة في تعزيز هيمنته على العالم لأنه يعتقد أنه يمتلك السر في أقصى درجات الحداثة والحرية الفردية، على أملٍ خيالي في أنها ستؤدي إلى تجاوز الرأسمالية، يعني التأخر بمقدار ثورةٍ واحدة أو أكثر. فالغرب ليس له مستقبل آخر غير خفض التصنيف.
لذلك فإنّ الروس، بغض النظر عن رأينا في حكومتهم، محقون في رغبتهم في وضع حدٍّ لنظام كييف الذي أتى به انقلاب ميدان في عام 2014، وهو نوع من “داعش” الأوروبي ذو وجهين، نظام هجين من مابعد الحداثة الليبيرالية المتطرفة الإرهابية والمافيوية ومن النازية التي يتبناها. حرب الروس حرب دفاعية ضد خصمٍ داس على كل مبدأ من مبادئ القانون والدبلوماسية، فضلاً عن أدنى درجات الأدب والأخلاق، والذي يمثله رئيسه المهرج بشكلٍ مناسب للغاية.
من الناحية الأخلاقية لا تعد روسيا الأوليغارشية بأيّ حالٍ من الأحوال مساويةً لخصمها من وجهة النظر هذه، خصمها الذي سقط منذ فترةٍ طويلة في الحضيض، منذ المذابح التي ارتكبت في أوديسا ودونباس في عام 2014 بتشجيعٍ وتواطؤ صامت من وسائل الإعلام الجماهيرية الغربية.
لكن على المستوى الأيديولوجي، تحاول النخب الروسية تقديم معركتها ليس فقط كما هي عليه، أي معركة وجودية وطنية، ولكن كحملةٍ صليبية كونية ضد شرٍ “عولمي” يتم تخيله بطريقةٍ صوفية غير عقلانية. وبذلك، فإنهم يقتبسون المنطق التبسيطي للدعاية الغربية من خلال محاولة عكس اتجاهها ببساطة، واستعادة نظرية صموئيل هنتنغتون المخصصة لهذا الغرض، والمعروفة باسم “صراع الحضارات” (كما لو كانت هناك العديد من الحضارات حالياً على هذا الكوكب بينما هناك بالكاد واحدة!).
إنّ هذه النخب، التي يمثلها بوتين، لافروف، زاخاروفا، ميدفيديف، قديروف، وهم ممثلون أذكياء (لا يمكن قول الشيء نفسه عن نخبتناّ!) يصيبها الإحراج من حقيقة أنّ محبة أو كراهية روسيا، وكلاهما منتشر في العالم، لها سبب واحد فقط: ذكرى ثورة أكتوبر العظيمة التي ما زالت متقدة. إنّ روسيا تخاطر بإعادة فقدانها بسرعةٍ كل ما ستجلبه لها التضحيات التي توافق على تقديمها اليوم في ساحة المعركة إذا استمرت في إنكار النقطة المركزية في تاريخها، وهو أهم حدث في تاريخ البشرية في الألفية الماضية، وهي القضية الوحيدة التي يمكنها حشد الجماهير لصالح روسيا في الداخل وفي العالم. ومن الواضح أكثر فأكثر أنه بعد فترة الحرب في أوكرانيا، لن تكسب روسيا المواجهة العالمية مع الإمبراطورية الغربية – في النطاق الزمني للعقد القادم – دون مشاركة الجماهير.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الحليف الرئيسي لروسيا، الصين، لا يظهر حماساً خاصاً للدفاع عن “القيم التقليدية” التي يتم التذرع بها ضد انحطاط الغرب. إنّ تأكيد الطابع الاشتراكي الواضح بشكلٍ متزايد لهذا البلد يشير إلى الطريق الواجب اتباعه في المواجهة ضد الإمبراطورية في مرحلتها النهائية.
يجب أن تنتصر روسيا من أجل مصلحة الشعوب التي تقاتل ضد الإمبريالية ولمصلحة الطبقات العاملة في العالم، لكن هذه الطبقات لا تعرف ذلك. إنهم يعيشون في العالم الخيالي للاستعراض الغربي، في عالمٍ من المهدئات أو الانحراف مثل ديزني وستيفن كينج، إلخ. ليس من خلال اختراع قصةٍ من نفس النوع يتم تقديم روسيا على أنها فارس القيم التقليدية التي لا تهتم بها جماهير العالم، في مواجهة الواقع المادي للأزمات المتكررة.
بكل جنون الحب سوف يتم تمزيق حجاب أربعة أجيالٍ من دعاية الحرب الباردة التي شيطنت هذا البلد العظيم.
إنّ معركة روسيا ليست حرباً صليبية يقوم بها “الخير” ضد “الشر” حيث نقلب ببساطة أدوار الأبطال المعتادين، بل هي معركة من أجل العودة إلى الواقع. إنها معركة ضد عالم ما بعد الحقيقة. إنها معركة، سواء أعجب ذلك أم لم يعجب أولئك الذين أطلقوها على مضض، لأنهم أجبروا عليها من قبل الإمبريالية، معركة ضد الرأسمالية في مرحلتها الأخيرة من التحلل.
جيل كيستيو GQ ، 26 آب/أغسطس 2022، تمت المراجعة في 29 أيار/مايو 2023
ملاحظة: أظهرت متاعب الحكومة الروسية مع منظمة فاغنر عدم كفاية الاستراتيجية السياسية الحالية في موسكو – التي ليس لديها خطة واضحة لما بعد الحرب في أوكرانيا. عندما يريد المرء خوض نصف حرب، فذلك لأنه يفضل الحفاظ على النظام الاجتماعي أكثر من النصر.
* Gilles Questiaux (GQ)، كاتب سياسي فرنسي من مواليد 1958 في Neuilly sur Seine ، أستاذ التاريخ في التعليم الثانوي في Seine Saint-Denis من 1990 إلى 2020 .