حوار مع الشاعر والناقد جمال جاسم أمين
أجراه معه الكاتب عبدالحسين بريسم منذ حوالي ٨ سنوات .
(منقول عن موقع مدونة كتابات في الميزان ٢٠ أيار ٢٠١٥)
الشاعر والناقد جمال جاسم أمين أعتبر نفسي شاعرا معلّما والشاعر المعّلم ليس الملقّن بل الذي يترك خلفه مجرّة تأثير ، يخلق أفقا يتيح للآخرين السياحة والسباحة فيه.
عبد الحسين بريسم
حاوره في الرصيف المعرفي في ميسان.
عبدالحسين بريسم :
يعد الشاعر والناقد جمال جاسم امين واحدا من أهم الشعراء والنقاد في العراق لما قدم منجزا على صعيدي الشعر والنقد وعلى مدى أكثر من عقدين من الزمن شاعر عبد طريقه الشعري بكل ما هو مغاير وبصماته واضحة منذ سعادات سيئة الصيت وإلى غاية بحيرة الصمغ إضافة إلى طروحاته ومقالاته النقدية المصاحبة لمنجزه الشعري عن مشروعه الكبير البديل الثقافي وسعاداته الشعرية كان هذا الحوار سألناه:
1-قبل البداية لابد أن نحاورك عن – البديل الثقافي- المشروع والمجلة ماذا تقول؟
ج/: ان البديل الثقافي خطاب يحتاج الى مجلة بمعنى أن إصدار المجلة كان بفعل الحاجة لترويج وإعلان الخطاب وهو أمر طبيعي ، المجلة وحدها تظل عائمة ما لم تنطلق من رؤية جديدة تتبناها و تدافع عنها وبالفعل كنت أحرص من خلال مقالاتي الافتتاحية بوصفي رئيسا للتحرير أن أثير الأسئلة الحيوية في خطاب و مفهمة الاستبدال الثقافي وأظن أنني على مدى سبعة عشر عددا حاولت أن أغطي الكثير ، وإجمالا أقول : إن مشروع البديل لثقافي يحتاج أنشطة وفعليات متعددة واحدة منها المجلة التي نحن الآن بصدد الحديث عنها وبالفعل أقيمت أكثر من ندوة حوارية نقلها الإعلام المرئي و المكتوب كان الهدف منها توسيع فضاء تداول الفكرة وإغناءها بالجديد في كل مرة .
2- طرحت البديل الثقافي عن أي ثقافة تريد التبديل وهل هو بناء على بناء أم بناء على أنقاض ثقافة انقرضت؟
ج/ ربما يبدو العنوان صادما ، ذلك لأننا نخلط غالبا بين (البديل ) و ( المعارض ) وقد ميزت في إحدى الافتتاحيات بين المفهومين ، بين قسرية و صراع المعارضة و حوارية الاستبدال ، البديل ليس ازاحة لأحد بل هو مساءلة جادة و مستمرة من أجل الوصول للأصلح وهذه هي مهمة الثقافة ، عندما يتوقف جدل الاستبدال نقع في الوثوق الإيدلوجي ، نخرج من المعرفة إلى التصنيم ! من حيوية السؤال إلى سكونية الأجوبة الجاهزة ، البديل الثقافي خطاب معرفي يبحث عن مكاشفات نقدية تلامس الجذور دون أن تنشغل بالنتائج الظاهرة وحدها وصولا إلى وعي نقدي ( ضدي ) كما أسماه كمال أبو ديب على أن لا تكون الضدية جلدا للذات بل نريدها كشفا للعيوب النسقية القارة وفهرسة للتصدعات التي تعيق حركة التنوير ، هذه المفردات التي أعدها تأسيسية استوعبتها بحثا في كتابي الرديف ( وعي التأسيس ) ، هذا الكتاب كنت قد كرسته لمهمة تأصيل مشروع البديل الثقافي تأصيلا نظريا لأننا لا نريد لهذا المشروع أن يتحول إلى يافطة إعلامية شأنها شأن اليافطات التي تلمع سريعا لتخبو ، البديل الثقافي مشروعنا نحن جميعا ، هو عتبة وعي نقدي جديد و مغاير ، ورشة أسئلة كما أسميناه في بيان التأسيس الصادر خريف 2005 مع عدد المجلة الأول ، نحن نعرف صعوبة الاشتغال الفكري في ظل ضجيج ثقافة منفعلة بالميديا و مفاجآت اللحظة وإغراءات مراكز القوة و النفوذ ، هذه الثقافة ظلية تابعة وهي واحدة من سمات الثقافة التالفة المقصودة بالاستبدال ، نعرف أيضا أن مشروع البديل الثقافي حلم طويل لكن هدفنا أولا أن نحرره من حدود الحلم الفردي الى مديات أوسع .
3- ميسان المدينة أخذت تتبنى – النقد الثقافي – ماذا تقول في ذلك.
ج/ النقد الثقافي بنسخته المطروحة اليوم أعده تشويها للنقد السياقي الذي يسعى إلى ملامسة أنساق ما وراء النص ، لا أختلف مع من يريد كشف القبحيات التي تتستر وراء الجمالي ، نعم ، لكن شرط أن لا يصبح النقد نفسه قبحيا ! اليوم صار الجمال ذاته متهما بالقبحية ! هذه الرؤية أنا أرجعها إلى أصول إيدلوجية تستهدف المدنية والتمدن باعتبار أن الفنون الجميلة لكونها ( جميلة ) تكرس وعيا مضادا للتطرف و الظلامية بل و الوثوقية بكل أشكالها ، أظن أن تسفيه الجمال الأدبي و الفني يصب أخيرا في صالح هكذا ظلاميات ، هذا الكلام ليس دفاعا عن الشكلانية المحضة بل هو كشف للأغراض السياسية التي تتهم الجمال برمته .. النقد الثقافي الذي يمارس اليوم في العراق تشويهي بامتياز ، أما بالنسبة لسؤالك عن ( ميسان ) أتمنى أن ينتبه الإخوة العاملون في هذا الحقل لهذه المسالة كي لا يقعوا في خلط المفاهيم و الأهداف ، ولإيضاح الفكرة كاملة أنا أعتبر أن مشروع البديل الثقافي بخطابه المعروف الذي تحدثنا عنه يقع في الصميم من نوع النقد الثقافي الذي نتوخاه ، نقد الأنساق السوسيو ثقافية .
4- أنت تمسك رمانة الشعر بيد وفي الأخرى مشروعك النقدي أي الرمانتين أقرب وكيف يحصل ذلك؟
ج/ السؤال يفترض أن الرمانتين حسب تعبيرك بمذاقين مختلفين ، أنا أعتقد أنهما بمذاق واحد وإذا كان لابد من التمييز قليلا فأقول كما قال الشاعر والناقد علي جعفر العلاق ( أنا شاعر يكتب النقد ) أكرر هذا المعنى للتأكيد على أني أذهب للنقد بمحرضات شعرية وأعرف أن مثل هذا الكلام لا يروق للنقاد الأكاديمين أو المختصين بالنقد وحده ، في مهرجان المربد الأخير جمعتني جلسة قصيرة مع الناقد المصري المعروف صلاح فضل و في معرض الإفصاح عن منهجي في القراءة النقدية القائم على أساس منهج الناقد لا منهج النقد وكما هو مفصل في كتابي ( أسئلة النقد ) المكرس لموضوعة المنهج ، أجابني ( فضل ) : إنك تقول هذا الكلام لأنك شاعر ، أي أن عقلك الشعري يتسرب لرؤيتك النقدية وهذا ما لا يسمح به النقاد المنهجيون بينما أراه أنا إضافة للمنهج لا شرخا به ، خلاصة القول : أنا ناقد انتباهة لا ناقد تآليف ، بمعنى لا أميل للمؤلفات الطويلة قدر ميلي للانتباهات التي تعين على رصد الشعر الذي أراه شعرا ، أنموذج الشاعر الناقد نادر في حياتنا الأدبية وما موجود جهد صحفي يمارسه الشعراء أحيانا بدعوى أنه نقد ، النقد الحقيقي معرفة توسع فهمنا للفن وهو في الوقت ذاته فن يلهم المعرفة ما لا تدركه وحدها .
5- سعادات سيئة الصيت عندي وعند القراء المختصين والنقاد أهم ما أصدر من الشعر هل هذا صحيح ولماذا؟
ج/ ما يميز مجموعتي الشعرية الأولى ( سعادات سيئة الصيت ) أنها كانت مثالا نوعيا لشعرية الاختزال بعد التخلص من الجملة الطويلة سمة نصنا الثمانيني ، ( سعادات ) قدمت أنموذجا لهذا التحول وهنا تكمن فرادتها و ريادتها بل هذا هو السبب الذي حدا بالكثيرين لتقليد نصوصها أو على الأقل شكلت إغراءا للتقليد ، في ( السعادات ) مناخ شعري لم يكن مألوفا في الشعرية العراقية ساعة صدورها منتصف تسعينات القرن الماضي ، هذا الكلام لا أريده على حساب تجارب شعراء آخرين أعترف بأهميتهم وفرادتهم أيضا لكننا نتحدث عن فرادة ( سعادات سيئة الصيت ) التي أثارت اهتمام النقدية العراقية مثلما اثارت انتباه الشعراء أنفسهم ولعلي لا أبالغ اذا قلت أن جيل التسعينات في أغلبه تأثر ب ( سعادات سيئة الصيت ) على اختلاف أنواع التأثر سواء كان تقليدا لها أو حوارا و تثاقفا معها وهذا الأخير هو الأجدى و الأفضل .
6- من هم الشعراء الذين تجد فيهم إخلاصا ومنجزا شعريا في ميسان بالأخص وفي العراق بالأعم؟
في ميسان هناك أسماء شعرية استطاعت ان تثبت بصمتها على مر أكثر من عقدين من الزمن أذكر على سبيل المثال : ماجد الحسن ، علي سعدون ، عبد الحسين بريسم ، محمد عزيز على قلة نشره ،ولا ننسى من خرج من المدينة كما لا ننسى جيل الشباب أو جيل ما بعد التغيير مثل أحمد شمس وأحمد فهد ، أما عراقيا فهناك تجارب مائزة أخشى التورط بذكر بعض دون بعض ، أسماء جادة رغم الضجيج الشعري السائد ، ضجيج كتبة النثر ولا أقول قصيدة النثر والفرق كبير.
7- هناك قول إنك تصنع الشعراء والتابعين هل ممكن صناعة الشعراء؟
صناعة فضاء تداول للشعر نعم أما صناعة شعراء لا ، فيما يخص هذه المسالة أنا أهتم بالشباب و الواعدين و الطامحين إلى الشعر وبالفعل ساعدت الكثير وهذا ليس سبة بل أعتبر نفسي شاعرا معلّما والشاعر المعّلم ليس الملقّن بل الذي يترك خلفه مجرّة تأثير ، يخلق أفقا يتيح للآخرين السياحة و السباحة فيه ، هذا المنحى يعده البعض صناعة اتباع وهو ليس كذلك ولأكنْ أكثر صراحة إن عقدة قتل الأب هي السائدة في أخلاقياتنا اللاثقافية وهذه المسالة تحتاج بحثا لا أجد محله هنا في هذا الحوار!
8- نجد أن لديك خصوما في المشهد الشعري العراقي وخاصة في ميسان !
ج/ اليوم أصبحنا لا نستشعر نجاحنا أو نتأكد منه إلا عندما نجد خصوما ! هؤلاء الخصوم هم العاجزون الذين يحسدون نجاحك ولذا فإنني أقرر أن لا خصومة بين شاعر وشاعر أبدا بل هي بين شاعر و متشاعر ! لا خصومة بين مثقف ومثقف أبدا بل بين مثقّف ومدّعٍ يحاول أن يأخذ ما ليس له ، أنا شخصيا أمتلك رصيدا من الأصدقاء الشعراء و المثقفين ما يغنيني عن غيرهم ، هؤلاء الأصدقاء أصلاء في الإبداع لا طارؤون عليه ولو كانوا طارئين لخاصموني حتما ! أجد الفرصة الآن لتحيتهم وشكرهم أبدا على نقاء روحهم الرائعة.
9- ماذا تريد من الشعر؟
ج/ أريد من الشعر أن يسند روحي وأنا أتجول في ليل العالم ، أريده دهشة ترمم سكون الملل و الرتابة ، نافذة شخصية ليس بإمكان أحد أن يغلقها عليّ ، أنا لا أكتب الشعر بل تعلمت كيف أعيشه أيضا ، أعيشه عندما أتطابق مع ذاتي بلا أدنى نفاق ، لا أغتصب هذه الذات ولا أقسرها على ما لا تريد ، اليوم تراني لا أتملق أحدا لأني أدركت أن لا شيء في هذا العالم يستحق أن أريق ماء وجهي لأجله ، الشعر يجعلك تتوق للحياة لكنه في الوقت نفسه يعمّق فكرتك عن الموت وعندما تتعمق هذه الفكرة يتضاءل العالم بنظرك بل تشعر كأنك واقف تحت سقيفة انتظار والأشياء تستعرض نفسها أمامك ، هذا المنحى التأملي يورثك حزنا وجوديا كالذي لصق بالشاعر ( البريكان ) ومن قبله السياب ، هنا ستصبح شاعرا لا يصلح للاحتفالات ، يصلح للتأمل فقط ، شاعر لا يصلح للمؤسسات ! يصلح للشعر فقط !
10- ماذا تريد من النقد؟
ج/ أريد من النقد أن يكون رديفا معرفيا لكل هذا الجهد ، قلت وأكرر : النقد معرفة توسّع فهمنا للفن وهو في الوقت نفسه فن يتيح للمعرفة أن تدرك ما لا تدركه وحدها ، هذا التواشج يعنيني ، انا كياني لا أحب أن أفصل بين الأشياء كثيرا ، اهتم بكل ما يرفدني سواء كان شعرا أو معرفة ، وإذا كان الشعر يستوعب و يحفز حدوساتي العميقة فأظن أن النقد يحفز ذكائي الأكاديمي ، فطنتي ، انتباهاتي ، وكلاهما مطلوب بالنسبة لي.
منقول عن موقع مدونة كتابات في الميزان.
٢٠ أيار ٢٠١٥