تزامنا مع تصاعد معطيات العملية النوعية التي قادتها حماس ضد العدو الإسرائيلي، يتعقد المشهدان السياسي والأمني، وقبل أن تصل الجهات المعنية بتفسير وتحليل الحدث تفسيرا مهنيا متخصصا، تتزاحم الوقائع الجارية لتزيد من تشابك المشهد، الأمر الذي جعل إعطاء أي تكهنات عن مسار الحدث في غاية الصعوبة، فالأحداث المركبة، والتي يؤثر فيها أكثر من لاعب، تفتح المجالات لعدد غير قليل من المحتملات.
تقدم هذه القراءة مقاربة (سياسية/أمنية/عسكرية/ثقافية) من منطلقات معرفية، تحاول أن تستبين صورة المشهد بطريقة تنظر إلى كل عوامل التأثير بنظرة كلية شاملة، وعلى أساسها، يرتسم الاستشراف الأولي.
– المؤشرات والوقائع: توجد عدة مؤشرات، لا خلاف عليها، تتمثل بالآتي:
أ. إن العملية الحماسية نوعية بمقاييس الأعمال العسكرية والأمنية المتميزة، ويؤشر ذلك إلى مستوى عالي من التخطيط والتدبير والأداء.
ب. صحيح أن متراكم السلوك الإسرائيلي تجاه عموم الفلسطينيين وغزة على وجه الخصوص محفز لردة الفعل دائما، وقد تزايدت وطأة هذا السلوك في ظل توسع المستوطنات وزيادة الحصار على غزة إلا ان العملية لا تندرج تحت إطار ردة الفعل الفورية، فهي بمستوى من التخطيط والتدبير، الذي يحتاج إلى وقت مناسب.
ج. من الواضح إن المخطط والمنفذ للعملية وضع في حسبانه التركيز على قضيتين تمثلان الخاصرة الضعيفة والحساسة في الكيان الإسرائيلي، الأولى (العدد المرتفع للقتلى)، والثانية (العدد الكبير للأسرى)، إذ تمثل هذه الخسائر كابوسا مرعبا للعقل والثقافة الإسرائيلية، وتخلق ضغوط هائلة على صانع القرار فيه.
د. تأتي نوعية العملية من مجموعة مدخلات متميزة، لم يسبق أن حدثت طيلة فترة الصراع مع إسرائيل تتمثل ب: (العدد المرتفع للقتلى والأسرى، نوع الأهداف التي تم الوصول إليها، حجم الاختراق والإنجاز العسكري بالقياس إلى القدرات العسكرية لحماس والفترة الزمنية لتنفيذ العملية، صورة الرعب والهلع التي عاشها المجتمع الإسرائيلي، حجم ونوع المعطيات الأمنية والعسكرية والسياسية التي حققتها).
ه . على الرغم من الخبرة الإسرائيلية العالية في مواجهة الصراعات وتداعياتها إلا أن الحدث يكشف بوضوح حالة من التخبط والرعب والتيه، والذي تجلى في منطق الخطاب الإسرائيلي الرسمي والشعبي.
و. مهما قيل عن التشظي الداخلي الإسرائيلي إلا أن قضية مواجهة الفلسطينيين وخاصة حماس تضغط بقوة لتأجيل كل الخلافات والانصياع إلى حالة الطوارئ.
ز. عملية الرد الإسرائيلي هي محاولة لاستعادة الشعور بالتفوق والقدرة وحفظ ماء الوجه، أكثر من كونها استجابة عسكرية لتحدي أمني وعسكري.
ح. معظم الأطراف المعنية بالأزمة (عربيا ودوليا) يراهنون على الوقت، على أمل أن تتضح مسارات الحدث بوضع ما، ليختاروا الموضع الذي يناسب مصالحهم فيه.
ط. الموقف الفلسطيني الرسمي/الضفة، هو الأسوأ من بين كل المواقف العربية والدولية قياسا بمسؤوليتهم عن الحدث.
ي. تعاني معظم دول العالم من عدم القدرة على تصميم خطاب يتضمن موقفاً أخلاقياً تجاه ما يجري في غزة والفلسطينيين من جهة، ويضمن مصالحها ولا يغضب أصدقائها من جهة أخرى.
ك. على الرغم من رغبة الإدارة الأمريكية لإظهار صورة مكبرة عن حجم مؤازرتها لإسرائيل في هذا الحدث إلا أن الحذر واضح في طيات كل الخطوات الأمريكية من حجم العواقب التي تترتب على موقفها، كما، أن هناك تضاد بين ما يمكن كسبه (ديمقراطيا) من إتمام عمليات التطبيع ومضاعفة علاقات إسرائيل في المنطقة، وبين الوقوف بدون قيد أو شرط إلى جانب التوجهات الصهيونية.
– التحديات والتوجهات والمصالح: نرسم في هذه الفقرة للأطراف الرئيسة المعنية بالحدث في ظل الموازنة بين التحديات والمصالح والتوجهات وكالآتي:
أ. غزة وحماس:
أولا: أعاد الحدث مركزة حماس بشكل أكبر في الجسد الفلسطيني السياسي والشعبي.
ثانيا: هناك قلق من أن تداعيات ردود الأفعال الإسرائيلية والمؤازرة لها، تطغى على حجم الرضى والفخر الذي تحقق لدى قاعدة حماس ومناصريهم.
ثالثا: لا تزال مواقف الأطراف المناصرة لهم في إطار المواقف العامة، لذا فإن هناك قلقا أو على أقل تقدير عدم اطمئنان من حجم المساندة والمعونة وتحديدا (العسكرية والأمنية) التي يمكن أن تضاف إلى خندق حماس عمليا من حلفاؤها.
رابعا: على الرغم من عدم توجيه خطاب لوم وإدانة من قبل قيادة حماس إلى السلطة الفلسطينية الرسمية في الضفة إلا أنهم قلقون جدا من موقف السلطة في هذا الصراع.
خامسا: لا تزال تعتقد بأن حجم الخسائر وعدد الأسرى ومعطيات أخرى أدركتها إسرائيل عمليا من جراء العملية العسكرية، كافية في أن توقف ردة الفعل الإسرائيلي دون خيار الاجتياح الكامل لغزة.
ب. السلطة الفلسطينية والضفة:
أولا: إن الحدث أعاد حساب القواعد الشعبية في قيمة المنجزات التي تباهت بها السلطة بناء على ما تسميه مسيرة السلام، كما أن العملية، عصفت بذاكرة أهالي الضفة لتعيدهم إلى خطاب النضال ومسيرة فتح في أيامها الأولى، ومن جهة أخرى فتحت العملية المجال لنقاش داخلي ولو على المستوى النفسي بشأن شرعية الانقسام الفلسطيني والموقف من حماس، وكذلك حقيقة تمثيل القيادة الرسمية للتوجهات الفلسطينية.
ثانيا: استأذنت إسرائيل والحلفاء في ممارسة خطاب شعبي، يظهر نحو من المؤازرة للعملية، ويسقط اللوم عنهم أمام جمهورهم.
ثالثا: يوجد انقسام نفسي وعقلي ومصلحي بين الرغبة بالقضاء على خصومهم في حماس وبين إدراكهم إن ابتلاع حماس يعني عمليا ابتلاع الضفة في المرحلة اللاحقة.
رابعا: تراهن على قدرة مصر والأردن ودول التطبيع الخليجي على تسوية الحدث بطريقة تحفظ لها موقعها من الجسد السياسي الفلسطيني.
ج. حزب الله:
أولا: يقع تحت ضغوط هائلة، تتمثل بالمتطلبات الأمنية والعسكرية والأخلاقية التي تلزمه بموقف محدد من الحدث الفلسطيني من جهة، والتزاماته تجاه دولته وعموم الشعب اللبناني من جهة أخرى، خصوصا وهو يدرك الظروف الاقتصادية الصعبة للمجتمع الشيعي في لبنان.
ثانيا: لا يزال يعتقد، أن الأزمة قابلة للاحتواء دون أن تصل إلى مرحلة الاجتياح الكامل لغزة، والذي يفرض عليه (إستراتيجيا) الانخراط المباشر في الحدث.
ثالثا: على كل التقديرات يمثل العامل الأكثر تأثيرا (في المنظور الإسرائيلي) بعد حماس في هذه العملية، لذا، ستحاول إسرائيل جاهدة لمنع دخوله المباشر في العمليات العسكرية.
رابعا: في حالة انجرار الأمور إلى العمليات العسكرية، سوف تظهر مفاجئات لكل العالم عن التطور النوعي والكمي العسكري والأمني لحزب الله ما بعد حرب 2006.
خامسا: حتى وإن دخل حزب الله في العمليات العسكرية، فإن الأمور تبقى ما دون الحرب الشاملة في المنطقة (أي تبقى في حدود أطرافها المباشرة).
د. إسرائيل:
أولا: ضاعف الحدث بشكل هائل حجم التحديات الداخلية التي عانت منها إسرائيل في الآونة الأخيرة على كافة المستويات.
ثانيا: لا يزال معظم التصرف الإسرائيلي السياسي والعسكري ينطلق من هستيريا الفزع الذي خلقته صدمة الحدث الفلسطيني.
ثالثا: من الراجح، إن الميل للمضي بصفقات العلاقات التي نجحت في تحقيقها وخاصة مع الدول الخليجية مقدم على إعادة صورة الانبهار بالقدرة العسكرية التي لا تقهر.
رابعا: طالبت من أصدقائها العرب وحلفاؤها، أن تستمع بلذة رفض أي فرصة للتفاوض قبل أن تنتهي من عملية عسكرية الأهم فيها حجم الكثافة النارية وعلو صوت الإنفجارات، والذي يعيد الحديث عن قدراتها العسكرية المتفوقة بين الإسرائيليين.
خامسا: هذا الإنجاز العسكري، كانت تحتمله من عمليات لحزب الله على أساس معرفتها بقدرته العسكرية إلا أن تقديراتها لحماس لم تكن بهذا الوزان.
سادسا: أسقطت العملية الحماسية عدد كبير ومهم من أوراق الضغط الإسرائيلية، بما فيها قيمة السلطة الفلسطينية الرسمية/الضفة في ملف الصراع، الأمر الذي يتطلب منها تهيأت نفسها لدفع كلف مادية ومعنوية لم تكن بالحسبان، لضمان أمنها.
سابعا: أعادت العملية مكانة الأمن في سلم الأولويات الإسرائيلية إلى موقعه ما قبل أكثر من (50) سنة مضت، الأمر الذي يعني ضرورة القيام بتغيرات عميقة في الجسد الإسرائيلي.
ثامنا: مع ضرورة وأهمية التغيرات المشار إليها في الفقرة السابقة إلا أن التوجهات الفكرية والنفسية والاجتماعية للأجيال الشابة الإسرائيلية، بل لعموم الإسرائيليين غير مهيأة لمثل هذه العودة حتى مع شيوع الفكر الصهيوني بشكل عام بين الإسرائيليين.
ه. مصر والأردن وتركيا وقطر:
اولا: تعد هذه الأطراف الجهات المعنية بالدبلوماسية الأمنية المتعلقة بتداعيات الحدث.
ثانيا: جميع هذه الدول مطالبة بموقف آني من طرفي الصراع، وكلا الموقفين يضاد بعضهما الآخر، فحماس صديق هؤلاء (طبعا العلاقة بدرجات متفاوتة)، تريد جهد لايقاف عملية الاجتياح الشامل، وكذلك فك الحصار عن المدنيين، واسرائيل تريد صمت وغض نظر لحين تصل حد الرضا من عقابها العسكري.
ثالثا: وان كانت هناك مصالح جزئية لهذه الدول او لبعضها في توسيع دائرة الصراع لسحب اطراف اخرى إليه إلا ان مصالحها الاهم والاكبر في الاحتواء.
رابعا: ستمسك بتلابيب مفردتي التهدئة وخفض الصراع حتى ينكشف الموقف، وتظهر مساراته الجديدة، لتعيد موقفها بحسبه.
خامسا: تدرك حماس ان الخذلان اقرب إليها من الوفاء في هذه العلاقة.
ز. دول التطبيع الخليجية:
اولا: تعظم في عيون الامريكان والاسرئيلين حجم المعطيات التي تترتب على الاستمرار بمشروع التطبيع، وتطرح لهم مخاوفها من ردة فعل شعبية في حال فشلت هذه المسيرة، وفي ذات الوقت تهمس لحماس ولو عبر وسطاء، ان علاقتها المتميزة مع امريكا واسرائيل، ستكون فاعلة في احتواء الازمة.
ثانيا: غير معنية بتداعيات الموقف الفلسطيني الامني والعسكري إلا بالقدر الذي يتعلق بضمان مسيرة مشروعها مع اسرائيل.
ثالثا: من غير المستبعد، ان تضع في حسبانها، ان توسع دائرة الصراع يمكن ان يجعلها اهدافا محتملة ولو على نحو العمليات الفدائية او الضربات الذكية.
ح. ايران:
اولا: هناك تكافؤ متقارب ما بين حجم ونوع المكاسب التي يرتبها لها مسار التصعيد في هذا الصراع ومسار التهدئة والاحتواء في آن واحد، لكنها اكثر ميلا للاحتواء.
ثانيا: تدرك، ان اعدائها وان نظروا لها بشزر واستخفاف في مواقف سابقة لكنهم مضطرون الان ان يتعاملوا معها بوصفها احد اهم الاطراف في مسار ضبط الصراع ومآلاته وكلفه.
ثالثا: تتعامل بحذر شديد لانها واثقة ان هناك رغبة من اكثر من طرف لادخالها في الثنايا المباشرة للحدث ولو على مستوى التخطيط والدعم للعملية.
رابعا: لن تشارك في عمليات عسكرية إلا اذا استهدفت القوات الامريكية وبشكل واضح وبنية الحرب اهدافا متعددة لحزب الله، وبعد، ان تكون المعركة اخذت وضعها الرسمي، وهو امر مستبعد.
ط. امريكا:
اولا: تعبير الشر المطلق في الخطاب الديمقراطي غيره في الخطاب المحافظ، فعند الديمقراطين سجال سياسي وتعبئة نفسية فيما هو عند المحافظين منظور ايدلوجي محمل برؤية دينية.
ثانيا: تحاول ان توصل رسالة لاسرائيل انها مندفعة بقوة تجاهها في هذه المعركة لكنها تناور بادوات ذكية تجعلها خارج الحلبة، فتحريك حاملة طائرات، وفريق كوموندز لتحرير الرهائن، عبارات كبيرة في المنظور الاستراتيجي وليست عملية في اطار مجريات الحدث الحالي.
ثالثا: ان المدار في مسار الموقف الامريكي هو العواقب والمآلات بغض النظر عن المبادئ والحجج، لذلك، هي منشغلة في حساب مآلات الخيار الممكنة، وغير عابئة لا بالقتلى الاسرائليين ولا الفلسطنيين.
رابعا: قلقة من انها تضطر في لحظة، ان تتعامل مع ايران من موقف ضعيف ومضطر في هذا الملف.
خامسا: اعطت الضوء الاخضر لكل الاطراف ان يشمروا عن سواعدهم لاختراع منفذ يقلل من انكسار اسرائيل وهزيمتها ويبقي على مكاسب التطبيع ومخرجاته.
سادسا: تدرك ان انخراطها في هذا الصراع بشكل مباشر يؤثر على تحالفاتها في موضوع الصراع الروسي الاوكراني، ويرتب عليها عواقب غير محمودة، وفي حساب الاهميات وان كان امن اسرائيل هدف استراتيجي لها والتزام ايدلوجي، لكن ضمان عدم فوز روسيا بحربها مع اوكرانيا هدف اهم منه.
ي. العراق:
اولا: يتقارب الموقف الحكومي والشعبي كثيرا فيه من ضرورة مؤازرة اهالي غزة وادانة الاعتداء الاسرائيلي، والدعوة لايقاف الحرب.
ثانيا: الطرف الذي يمكن ان يتخذ موقفا متقدما في مجريات الحدث واعني المشاركة العسكرية، يقف في تراتبية ردة الفعل بعد الانخراط الايراني والذي ياتي على خلفية انخراط مباشر لامريكا في الحدث، الامر الذي يجعل هذا الاحتمال بعيدا.
ثالثا: هو في الوضع الافضل عربيا واسلاميا لكونه لم يتورط في اي علاقة مع اسرائيل فضلا عن تجريمه للتطبيع.
رابعا: يجب على جميع الاطراف التي كان في اجندتها استهداف مصالح امريكية في الاوقات السابقة الحذر خلال هذه الفترة من امكانية تفسير اي فعل على انه مساهمة مباشرة في مجريات الحرب، وهو ما يفتح جبهة، العراق في غنى عنها، ويستغله الطرف الامريكي لردود فعل توظف فرصة هذا الحدث.
خامسا: ان مراقبة مجريات الاحداث ورصدها بموضوعية ووضع تقيمات مهنية متخصصة لها، يوفر فرصة مناسبة لاتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
– الخلاصة:
أ. هذا الحدث معقد ومتشابك ومفتوح على كل السيناريوهات، لذا فإن المستجدات هي الحالة الطبيعية فيه.
ب يلعب عنصر الزمن دورا حاسما في مآلاته.
ج. جميع الاطراف تتمنى الاحتواء بما في ذلك اسرائيل لكن بمخرج يضمن لها صورتها التي تريد.
د. مهما كانت النتيجة، فهو فاصل استراتيجي وتاريخي في مسيرة الصراع وما بعده لا يشبه ما قبله.
ه. امريكا واسرائيل، تدرك ان المطلب النهائي لاسرائيل ان تكون آمنة في الرقعة التي هي فيها، لذلك كل هذا الجهد غايته الاساسية ضمان امن اسرائيل، والذي يتضاد بالضرورة مع اعادة ديمومة الصراع.
ز. افق حل الدولتين مسدود بإحكام من قبل الاسرائليين وحراسه اصدقائها وحلفاؤها، ومن المستبعد، ان يكون الوصول إليه قريبا.
ح. لقد اثبتت الاحداث الجارية ادعاءات الجماعات الارهابية دا-عش واخواتها في انها تحمل راية الجهاد، وتحارب اسرائيل، فهاهي غزة متاحة ومفتوحة وهاهي الحرب شاخصة امامهم، لذا ينبغي على كل المغرر بهم في اتباع هذه الجماعات الضالة معرفة حقيقتهم واهدافهم الخبيثة وتواطئهم مع الصهاينة.
