” ماكيت القاهرة ” .
رواية فانتازية عبثية استحضر الكاتب فيها الماضي والحاضر والمستقبل بطريقة الخطف خلفاً، وذلك من خلال طرحه لفكرة قامت عليها الرواية وهي : إقامة غاليري للفنون عام ٢٠٤٥م في مصر طُرح فيه مشروع فني يهدف إلى تشييد مدينة القاهرة بشكل جديد، واستعادتها قبل خمس وعشرين عاماً ” .. يقول الكاتب : ” ماكيت القاهرة مشروع فني طموح، يهدف لتشييد ماكيت مصغر للمدينة بنسبة محددة هي ٣٥.٠١ بإتمامه ستنهض نسخة كاملة طبق الأصل من القاهرة في لحظة تاريخية محددة” .
فهل هي رغبةٌ من الكاتب للعودة إلى حضارة القاهرة في الماضي ؟؟ وهذا الماضي وفق الحساب سيكون بعام ٢٠٢٠م أي مانعيشه نحن الآن، وكأن حاضرنا هذا هو أفضل بكثير ماسيكون عليه في عام ٢٠٤٥م …
بنى الكاتب روايته من خلال عناصر الرواية الأساسية :
١_ المكان : مدينة القاهرة، الغاليري.
٢_ الزمان : من ٢٠١١_ ٢٠٢٠_٢٠٤٥ واستحضر الزمن بدءا من المستقبل إلى الحاضر فالماضي ..
٣_ الشخصيات : أوريجا، نود، بلياردو ، المسز . ” بحيث تمثل كل شخصية حقبة زمنية محددة، وهم يشكلون علاقة أسرية فهم أب وأم وابن .
يعتمد الكاتب في روايته على الخيال، لكنّه الخيال الممزوج بالواقع، الخيال وسيلة جميلة للحديث عن الواقع المؤلم … يتخيّل شكل القاهرة من حيث المباني والشوارع والأشياء والبشر في زمن المستقبل ٢٠٤٥م ، ولكنه يصطدم وهو يبني شخصياته بأنّ هناك صورة طبق الأصل من هذه الشخصية أو تلك .. ماتلبث أن تتحكم في الشخصية الأصلية وتغيّر مساراتها وسماتها ..
يطرح الكاتب في روايته فكرة الوجود والعدم ، الحقيقة والوهم ، فنرى الصراع بين الأمكنة وبين الشخصيات أيضا ..
يبني الكاتب شخصياته بعناية فائقة، ثم ما يلبث أن يمحوها، ويتساءل الكاتب :” هل تستطيع الأمكنة المتخيّلة أن تحلّ محل الأمكنة الواقعية وتمسح أثرها ؟ “
وتحضر في الرواية أماكن حقيقية لها موقعها ومكانتها في مصر مثل: ميدان التحرير، برج القاهرة، شارع محمد محمود ..
يحاول الكاتب أن يجعل لمدينة القاهرة هوية جديدة وبصمة جديدة، تحمل عناصر بقائها واستمرارها ..
الفانتازيا عند ” طارق إمام” تحمل بين طياتها أسئلة وجودية، كما تحمل سردية مشوقة وحوارات داخلية .. وربما كان عنصر التشويق عند إمام مستمد من الروايات الغربية، فهو يعتمد على عنصر الدهشة والغرائبية، كقصة الطفل الذي قتل أباه في مقدمة الرواية، يقول الكاتب : ” ألصق إصبعاً بجبهته متخيلاً أنّه مسدس وأطلق دوياً من فمه بوم .. بوم ..” ، أو كقصة العين الحية المرمية على الطريق، ولماذا العين ؟ إنها مرآة الروح ..
هذه القصص تحمل بين طياتها تشويقاً كبيراً، إضافة إلى الرمز والإيحاء اللذين بنى الكاتب عليها سردية قصته .. يقول في ذلك : ” … لا أحد بوسعه تزييف قلب القاهرة أفضل من هاتين اليدين، اللتين لم تقدّما نفسيهما بأفضل صورة، لأنّ في إحداهما، في اليمنى بالذات، ثمة سبابة لم تكبر . ” فإلام رمز بالسبابة التي لم تكبر ؟؟ هل قصد بها الثورة التي لم تتحقق في مصر ؟؟؟
وتأتي اللغة الجميلة لتحلّق بالنص في عين القارئ النهم حتى آخر كلمة في القصة .. جاءت اللغة شاعرية جميلة في الغالب يقول : ” لقد صافحته للتو ، حانت منها نظرة خاطفة لتلك السبابة القزمة بين الإبهام والوسطى ، وعندما دفنت كفها في كفه أحسّ بيدها تلمس الإصبع القاتل …” .
التناقض بين شخصيات الرواية بدا واضحاً، فكلّ شخصية متناقضة مع محيطها، ولهذا بدت حياتها غريبة، وأسماؤها مستعارة، لاحقيقة في هذه المدينة مع تلك الشخصيات، بل هي حياة وهمية غريبة ..يقول الكاتب معبراً عن ذلك : “…ألهذه الدرجة يمكن لمكان متخيّل أن يمحو مكانا حقيقياً ؟؟ ..
إنّ رصاصة متخيّلة يمكن أن تمحو شخصاً حقيقياً .. “.
ومن مظاهر الغربة التي عبّر الكاتب عنها قوله : ” يغدو الناس أشدّ شبهاً بصور طفولتهم عندما يضحون عجائز، يسهل التعرف على ملامحهم القديمة في الصور، كأنّ الأطفال يولدون فقط في هذه اللحظة، يعرفون أي وجه يمتلكون، وقد أشعرته لحظات الصمت بينما يتأمل المسز أنّ هذه المراة كبرت بما يكفي لتعود طفلة ” .. هذه الغربة التي عبّر عنها الكاتب ” طارق إمام ” ذكّرتني بفيلم ” الآخرون ” ” The others” فالأرواح التي كانت تفد على البيت في الفيلم، كانت كلّ روح تظنّ أنها صاحبة البيت الحقيقية ” ..
أيضا تذكّرت مسرحية ” ابتسم أنت لبناني ” للممثل ” أحمد الزين ” ويتبادر إلى ذهني من تخاطر هذين العملين ؛ إلى أي مدى استمدّ الكاتب ” طارق إمام ” أفكاره من تجارب الكُتّاب السابقين ؟؟؟
هل يمكننا استنساخ المدن ؟؟!!
وكأننا نستنسخ ذاكرة ونشوهها من كل مساحاتها الخضراء الرائعة …
للمدن أرواح .. وذاكرة .. وزوايا عميقة نخبئ فيها أغلى مانريد ..
ماقيمة الأشياء إذا تشابهت وتطابقت ؟؟؟
هل فكرة الرواية إشارة إلى تخوف الكاتب إلى ما ستؤول إليه مدينة القاهرة العريقة بعد سنوات في ظل أقوام آخرين لايمتون لمدينة القاهرة بصلة أو برابط ما ؟؟
لماذا طرح الكاتب صورتين متطابقتين تماما لماكيت القاهرة ؟؟ هل يرمز بذلك إلى وجود فئتين من الناس متشابهتين تماما رغم تزييف إحداها ؟؟ ولماذ خص الكاتب قلب القاهرة ؟؟؟
يقول الكاتب في ذلك : ” “.. أي مدينة لم تتعرض للمحو، هي مدينة لم توجد …”
” الأمكنة تخلق قاطنيها، إن نشأت نسخة جديدة من بيت ستنشأ نسخة جديدة من ساكنين ..” .
ماكيت القاهرة .. إعادة مجسم جديد لمدينة القاهرة طبق الأصل .. ولكن؛ ماذا عن ساكني هذا المكان الجديد ؟؟ من هم ؟؟ لكل مكان سماته وخصائصه حتى لو كان نسخة طبق الأصل ..
ماالذي يريده الكاتب من هذا التشكيل الجديد لمدينة القاهرة تحديداً ؟؟ هل يريد خلق شيء على هواه ؟؟ هل موقفه تعبير عن رفض ما يجري على أرض القاهرة ؟؟ هل يريد طارق إمام تطبيعاً من نوع مختلف مع ثقافة غريبة وأقوام مختلفين عن القوم الأصليين لمدينة القاهرة ؟؟
يعرض الكاتب لنموذجين دائما في قصصه، حقيقي ووهمي، ويأتي الواقع دائما أسوأ بكثير من الخيال .. رغم أنّ الكاتب يعمل على عملية البناء ، ولكن تتبعها عملية الهدم مباشرة، يتحدث عن التطابق الكلي للأشياء، ومن ثم الاتحاد ، فالتشويه والزوال ..
يقول معبراً عن ذلك : ” آخر مجسم نفذه أوريجا في ماكيت وسط البلد ، كان ماكيت “جاليري شغل كايرو” نفسه .
هاهو ينتهي به ليغادر المنحة، مثلما بدأ بتنفيذه لينالها به.
مع الارتعاش الخفيف لكف يده المتصلبة في الهواء كان مجسم الجاليري يهتز اهتزازاً هيناً ، لا يكاد يلحظ ، ويهتز معه أوريجا كأنه بدوره داخل الكاليري ، تحمله رعشةُ يدٍ أكبر …”
أفكار عميقة قد لا نقبض عليها بكلتا يدينا جيداً للوهلة الأولى .. ولكن لماذا يطرح الكاتب كل هذا الكم من التطرف والطاقة السلبية ؟؟؟
ولماذا يكون قلب القاهرة هو المقصود بهذه العملية ؟؟
يستحضر الماضي البعيد، مرورا بالحاضر المعاش، تجاوزا للمستقبل الغامض المخيف ..
نعم يبدو المستقبل مخيفاً مرعباً في ظل وجود نسختين متطابقتين من كل شيء ..
أين أرواح ساكني هذه المدينة أو تلك ؟؟ أين تراثها وحضارتها وبصمتها عبر الزمن ؟؟
ماكيت القاهرة .. تشويه لبصمة المدينة ، بل هو محو كامل لها ..
جملة من المفردات والمصطلحات استخدمها الكاتب مثل : ( الإصبع ، المرايا ، العين ، قلب القاهرة ، نسخة ، مقامر ، مهارته في محاكاتها ، المتخيل والحقيقي ، تزحف الأحلام وتتوحش، الخوف الحقيقي ، الجميع مرضى بالحياة ،تشويه ، لصوص ، رفاة أشخاص لايزالون على قيد الحياة … )
ويبقى سؤال في الخاطر القريب البعيد .. هل سيأتي في المستقبل مصمم ليشكل ماكيتاً جديداً رائعاً لمدينتنا، أو لمدنٍ أرهقتها الحروب والتشويه حتى كادت تُمحى تماما ؟؟؟؟!!!!!
رولا علي سلوم