نشر الدكتور عبد الجبار الرفاعي جزءاً من مقال له ينتقد فيه ظاهرة الشعر في العراق وتمركز الثقافة العراقية حولها، وقد اثار جدلا كبيرا بين رافض ومؤيد، وقد كتبت تعليقا هو اقرب لمقال مواز للنص، ولاهمية الموضوع، اضع نص الدكتور الرفاعي ثم التعقيب الذي كتبته..
نص د. عبد الجبار الرفاعي..
كلُّ شيء في الثقافة العراقية متمركزٌ حول الشعر. سرق اغواءُ الشعر أثمن المواهب في جيلنا، ومازال مقبرة للأذكياء، فجيل الأبناء لم يتحرر كليًا من غوايته. لا نحتاج إلى المزيد من هذا اللون الزائف والكتابة الغزيرة فيه وعنه، الذي يسمى خطأ بـ “الشعر”، وهو ضربٌ من الهذيان اللفظي. أغلبُ ما يُكتب ويُنشر عن الشعر تكديسُ كلامٍ على كلام، وليس شعرًا بالمعنى الذي تتكشّف فيه رؤيا مبدِعة، ومعرفةٌ مكتنزة، وبصيرةٌ مُلهمة. نادرًا ما نقرأ اليوم شعرًا يلوح لنا فيه أنه يختصر معرفةً في جملة، وصورةً في عبارة، وجمالًا في لوحة. بلغ اغواءُ الشعر أن تتمركزَ الثقافة العراقية حوله، وأن تستندَ إليه كمرجعية ومعيار في خلع لقب “مثقف” على كلِّ مَن ينشر شعرًا، بنحو استنزف عقولَ ومواهب شباب مؤهلين للعطاء الثمين في مجالات أخرى. أوقع إغواءُ الشعر هؤلاء الشباب، ممن يفتقرون لموهبة الشاعر، في محاولات للتجريب المتواصل للقصيدة بلا جدوى، من أجل أن تسجل اسماؤهم في لائحة الشعراء. حتى اليوم لم يسجل الشعرُ العربي، فضلًا عن الشعر العالمي اسما لأحد من هؤلاء، على الرغم من ضياع أعمارهم في اللهاث وراء صنعة “شاعر”.كان يمكن لهؤلاء الأذكياء أن يبدعوا في الرياضيات أو العلوم الطبيعية أو الفلسفة والعلوم الإنسانية أو الآداب والفنون الأخرى.
توضيح:
لا أتحدث عن الشعر الحقيقي، مثل شعر بدر شاكر السياب وأمثاله. أتحدث عن الشعر الزائف الذي تسيّد وصار مقبرة للمواهب والعقول الذكية في الجيل الجديد. أنا مولع بذلك اللون من الشعر، الذي وصفه هايدغر بقوله: «إن الشعرَ تسميةٌ مؤسِّسة للوجود ولجوهر كلِّ شيء، وليس مجردَ قول يقال كيفما اتفق»… هذا النص فقرة من مقالة منشورة الأربعاء الماضي في جريدة الصباح.
– التعليق الذي اوردته على النص والتعليقات الكثيرة حول النص..
طاب صباحكم وسعدت اوقاتكم
عندما دخل المنتج الوجداني الى قانون العرض والطلب بوصفه سلعة يتنافس عليها المنتجون والمستهلكون، خرج من كونه بوحا ذاتيا، لا يتعلق بالطالب والسامع، بل هو وعي خاص ينعكس عبر مواهب ذاتية الى صور جميلة برموز تحرك المشاعر وتنبه الحواس وتستفز الوجدان.
منذ زمن طويل، كان هناك نقاشا حادا حول هدفية المنتج الوجداني عموما وفي مقدمته الشعر، هل ينبغي ان يكون حاملا لاهداف معينة وينتج لاجلها ام انه حالة تلقائية غير معنية بالنتائج، وربما تتحقق اهداف مهمة في ظله ولكنها ليست المقصودة بالذات، لذلك يمكن ان يشعل الشعر والفن ثورة ويخلق تنمية ويؤدي الى نكسة، لكن هذه العناوين غير مطلوبة بذاتها من الشعر والفن.
العلاقة بين المثقف والشاعر عموم وخصوص من وجه، فهناك شاعر ولكنه غير مثقف بالمعنى الذي تبلور في اطار التقعيد الاخير لمصطلح المثقف، وهناك مثقف وليس بشاعر ويمكن ان يجتمعا معا، وهناك نماذج مهمة وكثيرة اجتمعت فيهما الجنبتان.
العراق (قديما وحديثا) بلد مجروح في اعماقه وذاكرته واحساسه، ولهذا الجرح سرديته الخاصة، لكن الحسين وكربلاء لها سهم وافر في هذا الحزن فضلا عن تعاقب الاحتلالات والنكبات، لذا يجد الحزن متنفسه عبر الشعر وعبر الغناء بشكل اوضح، واتحدث هنا عن الغناء الذي يساوي النواح في مضمونه، وليس هذا التهريج والصراخ.
الفضاء الالكتروني السيال واللامحدود، وغياب الرقابة، وتدني المقاييس، والرغبة في الوجود ضمن المشهد العام، وانعدام فرص تحقيق الاثر في المجالات الواقعية مثل الاقتصاد، والتاثر بالاخرين، وعوامل اخرى ساهمت في هذا التسابق المحموم والانخراط في اي مجال يمكن الفرد ان يكون له مكان تحت الشمس في عالم الذكر والاشارة، وهذه الحمى في شرقنا اكثر من غيره.
ان مقابلة الفلسفة والرياضيات والعلوم للشعر توصيفا ليس دقيقا، فالاولى ليست مواهب، وهي نتاجات معرفية عقلية تحتاج الى ألمعية ذكاء وجهد علمي منظم، فيما الشعر وكل المنتج الوجداني نتاج عاطفي مشاعري، ينبع من الفطرة والتلقائية، ولا يعتمد على التحصيل والدرس.
محنة الثقافة العراقية تحديات اخرى ومشاكل اخرى، وفي مناسبة سابقة كنت مكلفا بدراسة المشهد الثقافي العراقي خلال عمر الدولة العراقية الحديثة ووجدته قد تقاسمته ثلاثة مشاريع كبرى، هي المشروع الديني الاممي والقومي واليساري العابر للحدود، وكل هذه المشاريع لم تكن معنية بأسئلة الوطن ولا بوجع العراق، ولم يتبلور في ظلها مشروعا عراقيا ثقافيا إلا مشروع يتيم امتد من 1991 وحتى 2003 ولهذا قصته الخاصة والذي كان قوامه عراقيو الداخل مع بعض من اهل الخارج، ولكن ايضا ذاب وتلاشى بعد المسار الجديد للعراق نيسان 2003.
نحن بحاجة الى نقد معرفي لا ينطلق من المواقف الشخصية، بل من الحقائق والمعارف والاستحقاقات، واحسب ان المؤسسات التي تنطوي تحت عنوان ثقافة وثقافي وادبي عاجزة عن القيام بهذه المهمة، والاسباب ليس هنا محل بيانها.
من المهم ان يفهم الكثير، ان نتاج الدكتور الوردي مع خالص الاحترام له، لا يمثل ترجمة سردية المجتمع العراقي، وان مرتكزات هذا الطرح تمت مناقشتها ومحاكمتها، وهناك مقاربة ملتفتة الى مشكلة العراق والعراقي بشكل اعمق وادق، كما، ان مستجدات الواقع طرحت آلاف الاسئلة الجديدة.
سؤال هل اننا أمة بالمعنى المعرفي والسياسي، يحتاج الى ان نتمركز حوله ليكون منطلق نقاشنا الذي ينفتح على الكثير من الجوانب وفي مقدمتها ثقافتنا، وعندما ينبري اهل المعرفة لصياغة اسئلة مثيرة وواعية ومنتجة قادرة على سحب مراكز التمحور من بؤر نقاشية غير مجدية إليها سوف يكون الجميع منخرط في هذا المركز الجديد، والذي هو سؤالنا المصيري..
خالص الاحترام والتقدير لكل من ساهم في هذا النقاش المميز..