*كتب سعد بركات
عشر سنوات والذكريات تتقافز وجعا وأسى ، وجعا من إرهاب وحصار ، وأسى على أحبة افتدونا بالأغلى، فارتقوا أبرارا إلى الرفيق الأعلى .. ، ولكن ّ الذكرى محفوفة بفرج كرب و فرح تحرير، بل بغبطة انتصار تعزّز بعد سنتين بدحر خطر ماحق ..قبل أن يتسع ويصير انتصارا بحجم وطن ….فطوبى لهم ، لمن دافع أو افتدى وأزكى السلام .
عشر سنوات ، والحكايا تروى ، من جدّات لأحفاد ، يتلقّفونها ، بل يتناقلونها جيلا بعد جيل، ..
حين وقعت النائبة كتبت في جريدة،، صوت العروبة – نيوجرسي – عن ،، صدد التي اجتاحوها ،، و حين اندحروا ، خريف 2015 كتبت في جريدة ،، تحت المجهر – كاليفورنيا ،، حكاية صدد ..حكاية وطن ،، قبل أن توثق بفيلم للقناة السورية 2019 نال جائزة مهرجان الإعلام السوري الثالث في العام نفسه .
. وها نحن في رحاب الذكرى العاشرة ، نستعيد الحكاية :
(( على فجر حالك ،استفاقت بلدة ”صدد”صباح الإثنين 21- تشرين الأول 2013 ، صبح انبلج على سواد ، من رايات ورصاص ، أقضّ مضجع الأطفال وراح يقهر النوم في عيونهم ، ويغتصب البسمة من شفاههم قبل أن يدمع عيونهم ويدمي بعض أجسادهم ، وأجساد أتراب و آباء وأمهات ، وإخوة وأخوات ، أو جدود وجدات بعدما مزّقها أشلاء هنا وهناك.
صباحا ليس كغيره من سابق الصباحات ، حين يهم ّ كل إلى عمله، هذا يصابح زيتونة ، وذاك يسامر عريشة أو يتأبّط معولا ، والطفل يهرع إلى حقيبته ، بينما العجائز يتعازمون أو يتعازمن على كأس”متة ” وصبحية .. وإن على وقع وجع الوطن.
غداة الأضحى وكانت “صدد” ، في رحاب عيده ، قد ودّعت عديد أبنائها الذين يفرحون بعطلة ل”يعيدوا ” مع الأتراب والأهل في ربوعها ،، في ذاك الصباح الأليم ، فاجأها الغربان من غرب وجنوب ، على تعدد مسمياتهم ، نشروا الرعب قبل أن ينشروا الموت والدمار والحصار على مدى أسبوع ، قبل أن تطردهم قوات الجيش البطل .
لم تكن بلدة صدد الرابضة على كتف بادية حمص منذ قديم العهود، لتتوقع وأهلوها أن تدخل التاريخ المعاصر من هذا الباب المقيت ، وعبرأسبوع اجتياحها الأسود،وأن يتردّد اسمها على مواقع النت وفي مختلف أنواع وسائل الإعلام العالمية ، وأن يتوافد إليها العديد من مراسليها على هذا النحو وفي هكذا مناسبة موجعة.
لم تكن هذه البلدة الوادعة لتتطلّع إلى هكذا شهرة بائسة، وإنما كانت تحلم أن يأتيها صحفي استقصائي واحد ، ينقّب عن دوافع وعوامل تحدّيها لمناخات القحط والجفاف وتحملّها حياة الضنك ،على مرّ قرون وعقود وهي تتجذّر في الأرض وتنبش التراب بالأظافر وتستنبته بعرق الزنود والجباه يوما بيوم أوتعمّرها لبنة لبنة ، فتتدبّر أسباب البقاء على نحو فريد فريد، أوتدفع بشبابها في أنحاء الوطن وعبر الحدود والبحار ، مسلحين بأصالة الانتماء للأرض والوطن ، وبما وفّرته مبادراتها الأهلية السبّاقة من سبل علم ومعرفة.
نعم لقد محت “صدد” الأمية للشباب منذ نحو قرن أو أكثر ومكّنت الفتيات من التعليم منذ سبعة عقود أو يزيد وذلك بجهود كنسية – أهلية تطوعية مكنتّها من بناء وإشهار ثانويتين للفرع العلمي يوم كانت قرية في خمسينيات وستينات القرن الماضي حتى غدت بؤرة إشعاع معرفي لأبناء قرى المنطقة الذين جذبتهم إلى مدارسها ، واحتضنتهم في بيت العائلة الواحدة ، مشاركة في العيش والمأكل والمعاناة كما الطموح ،لايحول دون ذلك اختلاف المعتقد الروحي – الديني او الفكري بل كان يكرّسه ويمتّنه .
هذه هي “صدد ” مازالت واحة نور وحياة ، تفخر بأكثر من ألف خريج جامعة ومعهد ، ودراسات عليا ، ونحو50 معلما ومعلمة كانوا يسابقون الشمس ويتكبدون عناء الوصول يوميا إلى مهين المجاورة ، لتعليم أبنائها ، فضلا عمّن حمل الرسالة إلى أرياف سورية وإلى الجزائر واليمن ودول الخليج .
قبل أن يزورها الروائي حنا مينا ويلتقي شبابها بدعوة منهم صدح في فضاىها وديع الصافي، كانوا دعوا باحثا إسلاميا وأولموا له منتصف العقد الماضي ، في حين كانوا على موعد مع شاعر الناس من أرض الكنانة ، أحمد فؤاد نجم قبيل وفاته .
وقبل أن يجعلوا شعارمهرجان “صدد العراقة الرابع ” تحية إلى حلب عاصمة الثقافة الإسلامية ، بادروا لاحتفاليات ” أبي فراس الحمداني ” تمتينا لعلاقتها التاريخية مع الأمير والشاعر الفارس ، مذ قتله جيش ابن اخته فتوسّد ثراها في” قبر الأمير” المعروف شمالي البلدة .
هل تعلمون أن المدارس كانت من أولى ضحايا شذاذا الآفاق ، قبل ان تطال يد العبث والعدم الأيقونات الأثرية والأديرة السريانية .
لكن استهداف المشفى كان أكثر إيلاما ، ذلك أنها بنيت بتبرعات الأهالي ، ترفدهها تبرعات المغتربين فضلا عن مساندة مجلس الكنائس العالمي ووزارة الصحة التي جهزتها ، حتى انطلقت منتصف العقد الماضي بخدماتها لكلّ قرى المنطقة ،فأبناء صدد الأطباء الإخصائيون توافقوا على القدوم من حلب وحمص ودمشق لقضاء عطلهم الأسبوعية عملا تطوعيا في مشفى بلدتهم ، ولكن لكل محتاج من مواطني القرى المجاورة .
كانت “صدد” تأمل أن توثّق جهود شبابها وشيبها، كيف صمدت أمام عاتيات الزمن؟ وحين لم تنزح ولم تستجد حتى زمن الجوع و”السفر برلك ” وحين جفّ الزرع والضرع، لكنها تعرّضت للتهجير جماعيا مطالع القرن الحادي والعشرين .
فهل من يسعى لتوثيق ما أصابها من جرائم عصر ” الربيع العربي” وكيف نهضت من عمق الألم ، ومن بين الركام ، لتبلسم جراحا انفتحت على المدى ، وتبني وتعيد إعمارا، بعدما سطرّت أسفار كفاح على مدى عقود وعقود ، حين قهرت تصحّر العقول، قبل تصحّر الأرض،تراها لاتيأس وهي ترمّم مادمّره غزاة ذاك الفجرالأسود .
تراها تتجذّر أكثر وقد أحيت مشفاها ، وأعادت مرح الطفولة إلى مدارسها، وملاعبها ، من إنعاش حديقة “العين “إلى تجميل حديقة “السيل “، إلى حديقة الشهداء التي انتصبت لذكراهم العطرة ، وقد تجاوزوالمائة ،إلى مركز” التنمية البشرية ” جهد متكامل ببصمة شباب مقيم ومغترب ، و جهود خيرة وعقول مزهرة وواعدة بالمزيد .
في صيف 2016 استعاد شبابها مهرجان صدد العراقة بعد توقف لخمس سنوات ،
فرقة مار أفرام السرياني عزفت لافتتاحه ، وكما في كل مناسبة يتمازج لحن الشهيد مع ما تشدو به نحاسياتها من بهجة وأمل .
في رحاب الذكرى ، في كل بيت صددي حكاية عن مرارة أسبوع القهر الخريفي ، كما هاجس رعب تكراره خريف 2015 حين اقتربت “داعش” من شرقي البلدة وحاولت ….
في خريف 2013 ، فاجأ المرتزقة البلدة على حين غرّة ، لكن في خريف 2015 ومع الجنود البواسل ومن أنجدهم ، صدّتهم “صدد”، قبل أن يندحروا …. .
وفي الحكايات مرارة مّن تيّتم أو ترمّل أوفقد وحيده ،أو بات وحيدا بعدما فقد أسرته ، مرارة عمّن حصدهم رصاص غرباء ذاك الصباح ، ولم يتسن دفنهم . حتى انجلت الغمّة .
وعن حالات خطف ومخطوفين وعن مآس لا يكاد ينتعش الأمل بنهايتها ، حتى يخبو .
وعن…. وعن …تهجير وهجرة ، وعن آهات وحسرة .
قلت غرباء ومن دون عناء التوصيف والتسميات، دعوني أوضح أنهم غرباء عن الديار والأرض والوطن ، كما هم غرباء عن الأديان والقيم الإنسانية، نعم غرباء الوجه واليد والفكر واللسان ، غرباء عن سورية قيما وحضارة ، وحكاية “صدد” حكاية كل حيّ وبلدة طالها الإرهاب…. ف“حكاية.صدد…. حكاية وطن ،، )) .