من رحم المعاناة يولد الإبداع ، ويعطي صاحبه شرعية تحمل جواز سفر إلى القلوب ، وتصبح بحجم وطن معشوق , وذاكرة تستحضر كل أم آمال وآلام الفرد مندمجا مع مجتمع كانا صنوان , ولم يبرحا ذلك رغم الجغرافيا .
الإعلامي والأديب سعدالله بركات جمع أوراق الغربة ، لتكون وجعا متنقلا معه وبه على حامل غربة لا تليق به ، وهو السوري المشبع بالجمال والرقي والانتماء , لكنه قدر لم يرده الأديب ولا حول له في ذلك , فابن صدد تلك المدينة المتكئة على الحب من جهة ، وعلى وجع ما حدث من جهة أخرى جعل للكاتب وللمدينة وللوطن في قلبه حنينا لا يبرحه…
يغمرني الشوق لقراءة تلك الأوراق التي سطرت بناء على ما سطره مبدعون، وما جادت به أقلامهم التي رصدت بجمالية وصدقية ما حملته لنا أوراق الأديب والإعلامي سعد الله بركات ، ومن موقعنا نفحات القلم أعدنا جمع ما كتب في عدة صحف ومجلات لتكون ربيعا أدبيا يضاف لنفحاتنا ، ويزهر أملا بأن ما حمل من مواجع هو الخاتمة ليعود للكاتب ومدنه ووطننا السلام والأمان، وما اعتدناه منه من ألفة ومحبة وازدهار للوطن ونفض لغبار الغربة عن الجميع .
*الإعلامية الشاعرة منيرة أحمد ( نفحات القلم )
كتبت الدكتورة الشاعرة مها قربي في جريدة ،،رأي اليوم ،، اللندنية 4\12\2023 ومجلة ،، زهرة السوسن ،،الدمشقية12\12\2023 : أوراق سعدالله: نفحات وجدانية ..ومصداقية بوح
قرأت أوراق “وجع سعدالله” فإذا بها نفحات وجدانية مرسلة ” وبذلك وصفها أيضا د. جورج جبور في تقديمه للكتاب ص 7 ” قلّبتها وأمسكت بالصدق القابع في حروفها وذاك الشغف النابض بإيقاع الإنتماء الأصيل، فأوراق سعدالله هي أوراق السوري الأصيل الوطني الذي حمل جروح وطنه النازفة وحوّلها نجمات من كلمات وعطاء ويقين ” مع الفجر اجتزنا الحدود ، انتعشت النفس ، دخلنا الربوع ، وربوع الشام على موعد فجر نصر يتعزز ص 31 “.
روح الكاتب الشفيفة قدمت سرداً مرئياً ، كما كاميرا تصور الأماكن وتلتقط كل ما يدور فيها بحميمية صادقة وإلفة وادعة ، كان السرد محملاًبعبق التراب وحبّ الوطن والعائلة والناس ، فجاءت أوراقه خضراء كما روحه اليانعة ، ” ولكنها ليست أوراق من وجع الغربة ،بل هي أوراق اعتماد لسفير يقدّم أجمل صورة عن وطنه ،فمأروع أن نختصر كل الحب بوطن.
بلدة ،، صدد ..وحكايتها ص 38 ،، كما كل بقعة في سورية توجعت، ولكنها لازالت تحتفي بالخلصاء والأوفياء من أبنائها ، قد يكون قدرنا أن نصاب بسهم الغدر،ولكننا ننهض كما الفينيق من تحت الرماد لنحلق ونغني للشمس للأطفال وللحياة . كم أسعدني هذا الفيض الجارف من المشاعر المخلصة والوفية ، ” أحنّ إليك ..فربما نسوا ..وربما تناسوا ..أنهم راكموا فيك الحنين ص 44 ” كن على يقين ،رغم القهر ورغم الموت ،نبقى ذاكرة التاريخ ومتن حضارته الأولى ،ونبقى حاضرة الأمة ،نعلن أنّا لن نركع ..الوطن ليس قلادتنا الوطن هو القلب النابض فينا ولا يرحل…وهذا ما ارادته أوراق سعدالله في ثنايا كلماته وسطورها.. أما أسلوب الكاتب فأخذني إلى جبران وإيليا أبو ماضي، لقد كان نثراً قريباً جداً من أدب المهجر ببساطة المفردة والتعابير المفعمة بالمشاعر وبالمحبة والحنين ،وهذا ينسجم مع مصداقية البوح حيث النصوص ترجمة لأحاسيس الكاتب الشفيفة ” يامن تضيؤن شجرة الميلد ..في ساحة حارتنا العتيقة .. ماذا لو كنت معكم ..لأستعيد طفولة وذكريات …معكم تدمع عيناي فرحا .. وقد هجرته بدموع الأسى على نزيف وطن..،ص 56 ” وقد جاءت محملةً بصور مكثفة ومتسلسة تجسد معاناة الغربتين :الغربة في الوطن والغربة في البعد عنه . ولعل اتباع أسلوب التتابع السردي بعناوين استهلالية لمضمون كل منها ، ساعد في الكشف عن الفكرة والغاية التي قصدها، وقد جاءت على شكل مناجاة ذاتيةٍ قابلةٍ للتعميم ، فهي حالة كل سوري عاش آلام الحرب وتأثر بنتائجها.
أسلوب سعدالله السردي ، يعتبر مشابهاً لما يسمى بأدب الرحلات ،حيث كل مجموعة تصف المكان والأحداث ، وتجسد حالة شخوصٍ بعينها موجودة فيه ، وقد حرص على نقل حالة التأثّر والتفاعل والتأثير، كما حقق بافتتاحية كل مجموعة ما يلائم ذلك، فاختياره لبعض المقولات أو المقاطع الشعرية للافتتاحية شكل عامل جذب تعريفي لما ذهب إليه.
تقول مريم كدر( في جريدة البعث ) 4\11\2022 :أوراق سعد الله بركات سطرها الحنين
من يقرأ كتاب “أوراق من وجع الغربة”، للإعلامي بركات ، تطالعه صفحات كل كلمة من أسطرها تقطر شوقاً إلى أهل وأحبة وديار، و”على جناح الشوق” هذا يحمل “صدده” التي لم يرتو منها “أيقونة بين الضلوع” (ص 17).
وجع الكاتب يشتد على ما خلفه اجتياح الإرهابيين للبلدة من ضحايا ودمار، وهي التي كانت منارة علم وإشعاع فكري لقرى الجوار، سلاحها الحب والكلمة وغصن زيتون، لكنه وجع عام قبل فرح التحرير، اختزله بـ”حكاية صدد.. حكاية وطن” (ص 38).
لم يشأ الكاتب تقليب مواجع أهل ومغتربين، ولكن حين تزداد حدة مشاعره تراه يجلّيها بكلمات بليغة تخال أن كلّ حرفٍ من حروفها جرح نازف يبكي نيابةً عن صاحبه، وما أبدع قوله: “ما كتبت لأنكأ جراحاً، ولا لأذرف دمعةً، وإن كانت بينكم ومع القرّاء مجبورة الخاطر” (ص13)، وتعود أولى أوراقه إلى أول زيارة عبر المحيط وفراق 3 أحبة عام 2005 “يومها بدأت غربتي” (ص 31)، أي قبل اغترابه بسنوات.
والكتاب الصادر حديثاً عن دار المقتبس في دمشق وبيروت، يطالعنا على مدى خمسٍ وتسعين صفحة مطبوعة بشكل أنيق، يلفتك غلافه الجميل الذي تزينه ريشة الفنان الصددي عطاالله عبد اللطيف، وصورةٍ لمنزلٍ طيني يبدو كأنه يطلّ عليك من شرفات الماضي، حاملاً عبق التاريخ ودفء حب وحنين.
كم يدهشك الكتاب منذ عتباته الأولى! إذ يستوقفك إهداء مميز، لم يكتف الكاتب بتوجيهه إلى بلدة صدد التي غادرها، ولم تغادره، و”ما تذكرها إلا وسبقته دموع الغربة”، بل بعبارةً مبتكرة هي على إيجازها شديدة الإيحاء، وتحمل دفقة شعورية كبيرة، وكثافة جمالية نادرة، حيث قال “إلى كل آهٍ وحنين لوطن” (ص5).
وبعبارات دلالية، قدم لأوراق سعدالله، الدكتور جورج جبور: “ينتابني حرج محبّب، كلّما سألني زميل قلم كتابة مقدمة لمخطوط يودّ نشره، منذ الصفحات الأولى، بل منذ الأسطر الأولى لأوراق الإعلامي سعد الله بركات، تلاشى الحرج..
المفاجأة أيضاً كانت لدى قراءتي الأوراق، وجدتها تنبض بنفحات وجدانية، تقارب الحسّ الشعري، وقد عبّر عنها بلغة صافية صادقة [كعصفور يرنو إلى عشّه يشدّني الحنين إليك يا شام].. وهو يختزل ألمه من وجعين: جرح الوطن وغصة الغربة” (ص 8).
مهّد الكاتب لأوراق غربته بالعودة إلى بدايات تلك الغربة، عندما شدّ مبكراً رحاله مبتعداً عن صدد، تدفعه رغبة ملحّة لطلب العلم والعمل، فيبدو لنا أنموذجاً يحلّق في أجواء النجاح، بأجنحة من جدّ مثابر.
وقد أتى سعيه ثماراً مباركة، إذ حصل -مع العمل- على إجازتين جامعيتين في الصحافة والأدب العربي، وعلى دبلوم في التأهيل التربوي، وحصيلة تجربة غنيّة في مهنتي المتاعب، التعليم والإعلام، وقد شغل مهاماً عدة، منها مدير أخبار الفضائية، ومدير المراكز الإذاعية والتلفزيونية في سورية، فضلاً عن كتاباته في الصحف والمجلات والمواقع العربية والاغترابية.
ولعلّ ما يتصدّر أوراق سعدالله، أو في ثناياها، من مقتبسات شعرية ونثرية عن الغربة لمشاهير الأدباء (مثل جلال الدين الرومي، ومحمود درويش، و..) يشي بحرفية الكاتب وقدرته على الاستشهاد البارع، وبسمة معرفيّة مفيدة للقراء.
وحين نغوص في ثنايا الكتاب نجد أنفسنا أمام كاتب متمكن، ينثر نصوصاً رفيعة المستوى فنياً، محمولة على مواقف وجدانية وإنسانية، ويشكل كل نصٍ منها وحدة جمالية متماسكة، تتجلى فيها براعة الأديب، وقدرته على التكثيف والإيجاز. وما يلفت النظر أنّ وجدانيات الكاتب تنوعت بين نثر سلس، أو على وقع تفعيلة وقافية، لكن محاولته الوحيدة في الشعر العمودي “من دمشق الشام جاءنا الرسول هالة القدس على جانبيه تميل” (ص 52)، تنمّ عن حسّ شعري وفهم عروضي، في ورقة من مجموعة متناسقة تزين جيد أوراقه، بعذب الكلم ورقة المشاعر.
والملاحظ في أوراق الأديب عنايته بالجانب الدلالي، حيث كان لكل لفظة أو مفهوم دلالته العميقة، تحفر عميقاً في الذوق والوجدان، فهو لم يستخدم لفظة الوطن استخداماً مجرداً بل ربطه بالمنزل، وبالوالدة التي تنوء تحت ثقل سنواتها التسعين، وقد أوجعه فراقها، وأضناه بدايةً عندما قذفته رياح الغربة بعيداً عنها، ثم عندما رحلت وأخاه وأصدقاء خلال أيام، وعن وداعها الأخير يقول: “ما أقسى أن يغلق باب التمني، ليغدو نافذة تتقاذفها رياح العمر، ولا قدرة لغير الله على التحكم بها” (ص 19).. و”بلا وداع رحلوا..” (ص 65).
تراه يربط بإحكام وجداني، أيضاً، بين العام (الوطن) والخاص، البلدة التي “تلفحك بغبار البادية فتزداد اطمئناناً” (ص 32)، و”أحنّ إليك.. وسلام عليك” (ص 43 و45)، كما بعرائش العنب والأصدقاء والأحبة، أما حين يبلغه خبر عن فقد عزيزٍ، فيبادر ليخصّ بعض أوراقه بنكهة الوفاء، لأصدقاء وأنسباء أو روّاد ارتحلوا إلى عوالم الملكوت، من صدد وغيرها، ولاسيما “علي الصيوان.. الذي أنهكه جرح الوطن” (ص 76).
وأمّا الحكاية الأجمل فحديثه عن اللهفة ومشاعر الغبطة المشتركة، مع مفاجأة التعرّف على عائلة عمه حنا اصطيف (الأخ غير الشقيق لوالده) المهاجر مطالع القرن الماضي، بعد طول انقطاع تواصل منذ وفاة الأخوين قبل عقود، وما زخرت به من انفعالات توادد صاغها بلغة عذبة، عكست مشاعر الحنين إلى الجذور، وفرح الأحفاد من وراء البحار. ولعلّ ذلك التعرّف والتواصل ما خفّف عنه لوعة غربة ما كانت بالحسبان.
واللافت أنّ أوراق سعدالله، هذه، جاءت بأسلوب وتعبير جديد، عبر يراعه الذي صاغ لواعج الحنين، خواطرَ وأشعاراً موحية، كثيفة المعاني، مفتوحة الآفاق، وزاخرة الدفقات الشعورية النبيلة.
وفي جريدة ،،الأسبوع الأدبي ،، الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب كتبت الأديبة والناقدة عبيرمنون 1\10\2023

وكتب الشاعر والباحث تادروس طراد في مجلة،، أزهار الحرف ،، المصرية 13 \10\ 2023 يقول :
من الصفحة الأولى يطالعك العنوان المعبّر “أوراق من وجع الغربة” يفسّره الإهداء الموفّق “إلى صدد” دوما تذكّرتكِ إلاّ وسبقتني دموع الغربة ـ وإلى كلّ آهٍ وحنين.. لوطن ص5. أجل إنّها الغربة التي لم يخترها منذ صباه حتّى تقاعده، وحتّى بعد تقاعده، فنثر آهاته، عبر حنينه إلى وطنه الصغير ومنزله الأوّل، “صدد” و وطنه سورية الحبيبة، فذرف الدموع الساخنة، ونفث الحسرات المرّة على فراقه الأهل والبيت والوطن ـ وهو غارق في بحر الشوق والحنين وأمل اللقاء بالمحبّين ـ الوالدة والأهل والأصدقاء والجيران والزملاء.
عبّر عن ذلك بسرديّة ناجحة تفيض وجدانية، وإحساساً وشعوراً، بلغة سليمة رشيقة وبعض مقاطع الكلمات تلامس الشعر الحديث. ما ورد في هذه الأوراق المتفرّقة جاء عفويّاً بدون خطّة للبحث، بل هو تعبير عفويّ صادر عمّا يجيش به صدر الكاتب من مشاعر وخواطر، وأفكار لحظية دون اصطناعٍ أو تكلّف، ولا ليستجدي عطفاً أو دموعاً، فهوى المقاسي المتحمّل الذي يلفظ شكواه لنفسه، متسلّحاً بالأمل، في كلّ مقولة أو فكرة، يذكرها في أوراقه.
ولمّا قدّم له الدكتور جورج جبور لم يلق الدكتور حرجاً من تردّد فيما يكتب لأنّه قرأ وفق مذاقه، وخصّ الكاتب بصفة زميل القلم، وضمّن المقدّمة بنفحات وجدانية من نصّ الكاتب، الذي آلمته جراح وطنه وبلدته، اللذين عانيا من ظروف صعبة، وأيّام شاقّة، سبّبها وضع مأساوي في بلدة ووطن، أحبّهما من صميم الفؤاد، وفق ما يعتقده من مثل وأفكار، حنّ إلى الشام، دمشق الفيحاء، وإلى حمص العدية وربوع سورية، التي وصف طبيعتها الأخّاذة في أكثر من صفحة، وأكثر من خاطرة تلامس الشعر، وهو يرنو إلى الدواء الناجع لتخفيف آلام الغربة، ألا وهو دواء العودة إلى مسقط الرأس، وربوع بلاده، التي عزّ عليه أن يفارقها طوال مددٍ تطول وتقصر، إلى أن يأتي موعد الفجر، الذي يرتجيه.
كانت زفراته لا تنتهي، ولواعج الشوق لا تهدأ، وكان القلق يأخذ فجره في بعض لياليه الحالكة، في أوقات محنة وأخبار غير سارّة، أو خلال انتظاراتٍ، لطلوع شمس واضحة المعالم فيما يدور من حوله. حتّى أنّه في شعوره الداخلي “استشعر بالغربة قبل معايشتها” ص14 ـ ولم ينسَ ذكرياته عن القرى الصددية والجوار، وحلّق بأجنحة الشوق إلى الشام وصدد، “أحملك أيقونةً بين الضلوع” ص18 فخطرت في خياله العريشة والأمسيات وصباحات المتة اللذيذة مع الأصحاب والأهل، عندما كان في [مدينة ]كولومبيا . وأيّام الدراسة في الجامعة والتعليم والعمل والخبرة في الإعلام، فتذكّر وتحسّر، وهو في لهيب الشوق تمرمر.
وبرغم كلّ معاناته في غربة اختارته عن صدد، ودمشق وسورية، مازال الأمل يحدوه باللقاء “الأمل ما يزال أيضاً هو العزاء وإن في ثراها” ص20() سارت به الخواطر إلى رحاب بلده، وبلدته ومنزله وهذا هو الوطن.. معتزاً بصمود والدته التسعينية أم سعدالله لأن صمودها من صمود الوطن.. فودّعها بالدموع، وكان هو الوداع الأخير “ما أصعبها من لحظات” ص21 وقد اجتاحه حزن البعاد أيضاً عن جنينة البيت التي لم يستطع رعايتها وسقايتها في الغربة، وحين العودة خاطبها بعد أن كادت الأشجار والعريشة تميل إلى الذبول: “معك حق.. معك حق” وهذا من صادق الحنين والمناجاة. وبما أن الوطن جريح والبيت وطن دائم دعى قائلاً: “الوطن الدائم ليته يتعافى، وليتنا ليتنا لا نفتقد العودة لأحضانه” ص23 وأنشد “تبت يدا أبي لهب وتب، تباً لمن كان السبب” ص24 أجل وألف أجل تباً لمن كان السبب.. من درعا إلى القامشلي مروراً بحلب. وقد وصف ما يجري في بلادنا بأنها: “نكبت بغزو عالمي …” ص25……. فحلم بالعودة والوطن معافى: وأجمل حلم بأن “يرى الوطن مرجاً تزقزق فوقه الأقمار، وعشّاً يزيّنه النهار” ص25. وكم كانت غصّات الكاتب مؤلمة فلمّا رأى سرير ولده وحبيبه فارغاً، فهو المسافر الغائب الحاضر، “كلما رمقتُ سريره، أرجع إلى نحيبي، فيومها بدأت غربتي مرةً أخرى هو الأمل” ص29..
وعندما “اجتزنا الحدود، تنفّسنا الصعداء، انتعشت النفس دخلنا الربوع” رأى رؤّاد متنزّه الربوة يعجّ بالرّواد، فجال بنفسه القول: ” نقاوم الموت بحبّ الحياة” ص32. وعند الوصول واللقاء “أحييت علاقات طفولة، تنفّسنا شوقاً ومحبّة، وإن خاب الظنّ ببعض” ص32، لا شكّ ففي معاشرة الناس لا ينطبق المزاج والمذاق على الجميع، فلا بدّ من الخيبات. فالناس على اختلاف، وتنافر أحياناً، ولكن الودّ لا يفسده الخلاف، …. فقد رأى أنّ روائح بارود وقنابل (الحرية) قد وصلت إلى أنحاء العالم عبر أثير الفضاء.. هذا العالم الذي يحاصر سورية كما يرى، بغزو واسع، وأدواته شذاذ الآفاق كما يرى.. …
نعم يا سعدالله “حكاية صدد.. حكاية وطن” ويعلم الله ماذا حصل في صدد، وغيرها من ربوع الوطن العزيز.
هذه التي حنّ إليها “سلام لكِ، وسلام عليكِ يا صدد” ص46 وقد أنشد قصائد، وغنّى زجلاً في الشوق إليها، محملاً بالوجع، “عريشة الدار لا تبكي، يا طير الشوق سلم ع أهالينا” ص58 نادباً حزن الغريب، وشوق القريب. وفي لحظة فرح ومتعة بجمال طبيعة البلاد التي تغرّب فيها وصف “هنا الريح العليلة، تجدها فرصة، لتداعب شوق الناس والطبيعة للشمس، فتغزل من نضارة شجرها، شالات طمأنينة، وشلّالات عطر، قبل أن تعود لتغتسل برذاذ أو قطرات مطر مدرار، فما تكاد تفضي بها غيمة، حتى تلحق بها أخرى، لن تجد للمطر أثراً لوحل أو طين، ولأرصفة وأشجار عشق، وما يستفزّه ذلك الهطل العميم، من عبق تراب معشوشب، بعدما خصّبه أو خصّبه خير السماء” ص63 وقد اشتهى أن تصبح بلادنا كتلك البلاد. ومرّت الأيّام وعاد إلى حزنه وأوجاعه، في غربة ينتابها خريف الوقائع والذكريات المأساوية: “وهل أقسى من الموت وهو يخطف في غضون شهر، الوالدة، والأخ أبا كمال، وأخا الميرون وتوأم الروح أبا نظام، وأصدقاء أعزاء” ص65. وبلا وداع رحلوا. ولم ينس روّاداً من بلدة صدد، فخصّهم بالذكر وتحسّر على رحيلهم. فقد كانوا نجوماً لامعة في سماء بلدته. وهم من أحبّهم وأجلّهم واحترمهم، من أصدقاء وأقارب وزملاء. مثل الأستاذ تامر أسعد بجّور، والمهندس عزيز خليل، وعبدو ذياب العسكري من فيروزة الصددية، والشاعر الصددي يوسف عبدو حنّون، صاحب ديواني “نزيف الحروف” و “أضواء ” ونسيبه فايز ديب من دمشق، وعلي الصيوان من ريف طرطوس الساحلية، ومختار فيروزة ليون هبهب.
ووصف اللقاء الحبيب بأحفاد عمّه أخي أبيه غير الشقيق، وعائلته، والتعارف والتواصل. وكان اللقاء المفاجأة حميماً.. وكانت الحكاية تتوالى فصولاً ومتعة” ص82 وممّا يخفف أوجاع الغربة “صديق الغربة.. أخوك” ص83 كالأخ الصديق (كريس) الذي واساه في أيام غربته “ولذا يطرح التساؤل الملحّ نفسه، لماذا لا تكون هي البوصلة ومعيار ا لسلوك العملي في تعامل البشر مع بعضهم” ص83 وهذا من أرقى أنواع السلوك. وعند مقارنته المؤلمة بين،، مدينةكولومبيا،، وبلدته “صدد” رغم أنّها “لم تكن لتطغى على مرابع الصبا، وغبار ساحاتها وحجارتها” ص84 فقد طمح لأن تصبح مثلها في توفّر الخدمات والمدارس والمرافق العامة المتكاملة، من مكتبة عامرة حديثة غاصّة بالرواد ـ ومرأى أطفال “حين ترى تلامذة هنا، طيوراً تغرّد على وقع موسيقى ضحكاتهم، وهي تتماوج كزقزقة العصافير” ص84 ـ ودار للمسنين، ومدخل بلدة من ورد وخضرة فيه أثر، مهما كان حتّى ولو كان طنبراً عتيقاً. “كولومبيا يا حلمي في قرى وطني، هي كانت انطلقت ولكن!!! تناوبت أوراق الوجع، على ذكريات وخواطرَ وآمالٍ، كم كان يتمنّى أن يرى أثراً لنول والده، الذي عمل عليه فترة ـ أو لطنبر اشتهى أن يركبه يوماً ما.. رأى شبيهاً له بين الورود والرياحين، كأثر عتيق في بلاد الغربة.. ثم يعود ليروي مبادراتٍ اغترابيةً وعراقة في القيم.. مقيّماً نشاط المغتربين الأوائل في تشكيل الجمعيات الخيرية. وقد سار على منوالهم المغتربون الصدديّون الآخرون والجدد، فذكر تأسيسهم لجمعية “زهرة الإحسان” في مدينة ـ كاهوز ـ بولاية نيويورك الأمريكية عام 1914ـ ثم جمعيّات فيروزة وصدد وزيدل والحفر في كاليفورنيا، و “جمعية صدد الآرامية” في ألمانيا وأوروبّا عام 2016 ـ لترسيخ العراقة في القيم السامية إنسانيّاً وأخلاقياً. ومن كلّ بريق أمل كان سعدالله يشدو، مع شجرة الرمّان التي غنّت: “إنّهم عائدون.. إنّهم عائدون”.
*طادروس طـراد
(1)حتّى أنّه تساءل “ولانعلم في (أيّ) أرض نكون؟؟ ويقصد في يوم الرحيل، على ما يبدو.
أوراق من وجع الغربة»… تروي رحلة شوق وألم:
بقلم مايا سلامة ( جريدة الوطن) السورية 12\32023
كتاب «أوراق من وجع الغربة»، تأليف الإعلامي سعد الله بركات، من أدب المذكرات، وهدف الكاتب من خلاله إلى تصوير المعاناة والآلام التي قاساها في غربته عن وطنه ومدينته، فكانت أولى ورقاته بمنزلة استشعار الغربة قبل معايشتها حيث كتبها قبل سنوات من الاغتراب وهي تحاكي مشاعره خلال بعض زياراته.
وجاء في مقدمة الكتاب: «من إعداديتها الخاصة قذفت بي يافعاً رياح العلم والعمل إلى حمص فدمشق، فأبهرتني أنوارهما قبل أن تبهراني بنور علم ونهر معرفة، قبست ونهلت منهما ما استطعت مزاوجاً مع عمل شاق في مجالين مهمين من مهن المتاعب، الإعلام والتعليم، وبعد 45 عاماً عدت إلى صدد على أمل إرواء الغليل حاملاً إجازتين في الصحافة واللغة العربية ودبلوماً في التأهيل التربوي، فضلاً عن تجربة عمل غنية في واحدة من أهم مؤسسات الإعلام ومجالاته أي المرئي والمسموع، إضافة إلى الكتابة الصحفية في دوريات محلية وعربية واغترابية.
وبعدما قذفت بي رياح الغربة على غير موعد، وبعيداً بعيداً وعبر المحيط تراني أعود إليها، متأبطاً هذه المرة أوراقاً أودعت سطورها زفرات من لواعج وجعين، وجع غربة ووجع وطن.
لست بأديب ولا بشاعر، ولكن البعاد حرك فيّ شجوناً وجدتها تنساب عفو الخاطر، وها أنا أستميحكم عذراً، فما كتبت لأنكأ جراحاً ولا لنذرف دمعة وإن كانت بينكم ومع القراء مجبورة الخاطر تجد من يواسيها».
تحية وفاء
وفي بداية أوراقه يوجه الكاتب تحية وفاء إلى أهالي كل من زيدل وفيروزة والشعيرات والبيضا، إضافة إلى الحميرة ودير عطية، لما عرفوا به من شهامة وطنية بامتياز، وأخوة حقيقية إلى حد الإعجاز، حين ادلهم الخطر وعزت لحظات النجاة للبشر. فيقول:
ما جئت إليكم لأقلب مواجع بل جئت لأحييكم..
لأحيّ أهل زيدل وفيروزة..
أهل الشعيرات والبيضا.. كما الحميرة ودير عطية..
يا فيروزة العز في تاج شامها
يا درة حمص العدية..
يا زيدلاً ندية.. من ناسك أحلى هدية
أحلى صبية..
يا زيدل الميماس.. بالمحبة وللمحبة نرفع الكاس..
لأغصان وجذور….
أشواق كبيرة
ويكشف الإعلامي سعد اللـه بركات عن أشواقه الكبيرة للشام وصروحها وأوابدها وشوارعها أثناء إقامته في كولومبيا، حيث يذكر: «مثل قطرة ماء تتعشق ذرات الثرى يشدني الحنين عاجلاً إليك يا شام، إلى عبق شوارعك والأزقة، إلى ساحاتك وهي تغفو على كتف قاسيون فتستنهض معه بأسمائها التاريخ بسمو شموخه، إلى صروحك والأوابد تقص حكايات الحضارة وأبجديتها التليدة وكل ما تراه عيني من معالم لا تغنيني عن كنوزك والدرر».
كما يعبر عن حنينه لصدد التي حملها في قلبه أينما ذهب وبقيت ذكراها حاضرة في باله يشاهد صوراً منها في كل مكان تقع عليه ناظراه، وهنا يقول: « أشتاق إليك يا صدد فما غادرتك مرة إلا وعددت الأيام والساعات وتراني هذه المرة أعدها بالدقائق والثواني، فعلى أجنحة الشوق تلتهب المشاعر والأماني.. على أجنحة الشوق أحملك أيقونة بين الضلوع وأطوف بها مع الذكرى، وأعود إليك وقد أيقنت مجدداً أن كأساً من المتة في فيء عرائش العنب التي ربيتها يوماً بيوم سيظل يحملني إليك على أمل أن استظل بها إلى جانب بيت ابتنيناه…».
وداع أمه
ويوثق الكاتب في أوراقه بدايات اغترابه ولحظات وداع أمه وبلدته القاسية والتي كانت في عصر يوم أربعاء من عام 2012، فيوضح: «يوم ودعت أم سعد اللـه خلسة تماسكت ولا أدري كيف غالبت دموعي، لكن ما أخفيته عنها بذريعة
سفرة قصيرة لرؤية الأولاد والحفيد بدت وكأنها تحس به أو أنها لا تشأ تخيله، أليس قلب الأم دليلها كما يقال؟.
وقد وردت للكاتب بركات رسائل عدة حملت أصداء وانطباعات أثيرة :
· الطبيب الأديب روضان عبداللطيف ، وفي رسالة إلى المؤلف كثّف قراءته أوراق وجع سعدالله بأسطر تفيض بالدلالات حين قال
:(( بينما كنت تكتب أوراقك من وجع الغربة ، كان المداد دموع عينيك ومشاعرك القلبية الصادقة .ذكرك بعض الأصدقاء ، وهم قامات علمية ومجتمعّية ، دليل وفاء وطيب أصل .
لفتني في أوراقك أسلوب أدبي يعوّل عليه تطويرا وعطاء ، كما لفتني تطعيمها بالقصائد ، حيث أعطتها نكهة مميّزة .
بينما كنت تخطّ ذكرياتك ،وإذا بك توثّق تاريخا لبلد وبلدة ،بينما كنت تبثّ مشاعرك الخاصة ، وإذا بك تتحدّث بلسان آلاف المغتربين الأوفياء .
حقيقة وأنا أقرأ أوراقك ، جعلتني – كواحد من المتجذّرين- أعرف ونعرف كم من المتع التي نتمتع بها ، دون أن نشعر بقيمتها ، لقد خفّفت من آلامنا ، بأن بينّت لنا أنّ ما يشتهيه المغتربون للحظات ، نحن نعيشه كل الأيام .
لم نكن نعرف حجم معاناة المغترب ، الذي اعتقدنا أن بحبوحة الحياة ومشاغلها ، سوف تنسيه مسامرة الأهل والأصدقاء ، و رائحة أشجار و غبار بلدته ،هنيئا لبلد أنجب أمثالك من الأوفياء ،هنيئا لبلدة – صدد- صحراوية المناخ ، رطبة المشاعر عاصفة الأحاسيس على محبّتك لها وتعلّقك بها …
وفّقك الله في حياتك ومتّعك بزيارات وزيارات للبلدة والبلد الذي تعشق .))
· وجاء في رسالة الزميل الودود ، خالد الشويكي ،عضو [ مجلس الشعب ] وعضو المكتب التنفيذي لاتحاد الصحفيين ، ما يفيض بالدلالات حيث قال :((من يقرأ ما كتب عن سعد بأوراق الحنين وغيرها مما خطته أنامله وما يكتبه سعد بقلمه من مقالات رائعة يجد بأنه أمام قامة أدبية إعلامية ترفع لها القبعة احتراما ))..
ومن ،،سويداء ،، القلب ، كتب الصديق الأثير شفيق زريفة – مدرّس عربي – :(( لم أترك أوراقك حتى أنهيتها … كم كنت منسجما ومتأثرا ومستمتعا بما أقرأ… لم أفاجأ ….
كل مقومات التوفيق والنجاح متاحة ، الفكر النيّر والإحساس والانتماء ….العاطفة الصادقة صقلتها وغذّتها نيران الغربة … اللغة الثقة ، الغنيّة الطائعة… الأسلوب المتقن البعيد عن الاستطراد عمل فيه التشذيب والتهذيب عمله ….أبارك لك ولنفسي هذا الإنجاز)).
*أما رسالة صديق اليفاع والعمر ،الياس كدر ، فبلاغتها في إيجازها : ((وصلتني أوراق غربتك وحنينك ،قرأتها بشغف، تلمست مشاعرك وتخيلتك حين كتبتها ، كل الصدق فيها ، وتأثرت بمقاطع تلتقي أحاسيسنا فيها ، وتصفحت ذكريات نلتّذ فيهاونتحسّر وأحيانا نحزن ، بارك الله بقريحتك وقلمك ، دمت بصحتك وعطائك والى لقاء قريب…)).
ومن ربوع حمص العدية ووادي نضارتها بعث الصديق المعتق الناقد د.جودت ابراهيم بعبارات دلالية :((قرأت بعض أوراقك، بل أكثرها، وهي كتابة حميمية شفيفة راقية، بأسلوب جميل، ولغة رفيعة… أهنئك)) وفي تعليق على مقالة الشاعرة مها قربي ،،مجلة زهرة السوسن ،، كتب د. جودت يقول :”مقال مهم للغاية دخل إلى أعماق العمل وبحث عن الجواهر وكشف عنا بأسلوب جميل ولغة أدبية وصور شفافة…تحياتي لكما… دام العطاء بوجودكما” وجاء تعليق مدرّسة العربية المربية ليلى الشيخ على المقال نفسه مسك الختام حيث كتبت : ” فخر واعتزاز بابن صدد البار، تحية منّا لقلبه المفعم بالحب لترابها الذي غزله كلمات بسيطة ومشاعر صادقة ، أمدّه الله بالعمر والصحة، وللشاعرة شكرنا الجزيل وحبّنا الخالص
صدر الكتاب عن “دار المقتبس” ـ الطبعة الأولى 2022م بحجم 24/17 سم ـ الغلاف هدية الفنان الصددي عطاالله عبداللطيف.