التّلازم بين البناء القصصيّ والدّلالة
#- استهلال:
ما أكثر جراح هذه الأمّة وما أبعد غَوْر هذه الجراح. واقع لا يختلف حوله اثنان، ولكن الاختلاف في نوع الموقف الذي يتّخذه كلّ واحد، فإذا كان البعض يكتفي بالصّمت فإنّ البعض الآخر يعي ذلك الواقع وعيا ثقافيّا وفنّيّا فيجابههُ بالفنّ; يفضحه ويُعرّيه ويدعو إلى اتّخاذ موقف منه. ولا شكّ أنّ المقصود بالموقف الثاني هو فئة ” المثقّفون”، ولا نقصد المثقّف من نوع كلاب الحراسة ولكن نعني المثقّف العضوي بتعبير الفيلسوف الإيطالي ” غرامشي”. ولعلّ صاحبة قصّة ” جرح غائر” الأديبة هدى حجاجي تسعى إلى الانتماء إلى قافلة المؤمنين بضرورة التّصدّي لفساد الواقع والانتصار لقضايا الحقّ والفضيلة…
إنّها تجابه الواقع بكلّ جرأة وتتصدّى لمساوئه بكلّ حرّيّة وبوعي كامل ورفض ثقافة الرّضا السّلبي والقبول بالظّواهر السّيّئة والأوضاع المتردّية.
إنّ اختيار هذا العنوان ” جرح غائر” تعبير صريح عن وعي الكاتبة المأساوي بتردّي الواقع وضخامة ذلك التّردّي ولهذا كانت الصّفة ” غائر” ( بمعنى العمق والبُعد) مدعّمة للموصوف ( جرح)، ومضخِّمة لدرجة الوعي بالواقع.
إذن يختزل العنوان جملة المشاغل التي أرّقت الكاتبة دون وشاية صريحة بذلك بل تركت المتلقّي يشاركها الانفعال والتّفاعل مع هواجسها. وهكذا كانت العتبة ومضة إشهارية لمحتوى القصّة وجسر عبور آمن إلى تفاصيل ذلك المحتوى.
1/في بنية ” الحكي”
قامت جغرافيا قصّة ” جرح غائر” على بناء حكائيّ سمته الأساسية ” المفارقة”، والمفارقة – زيادة على كونها مشحونة بحمولة إيديولوجية تخفي مواقف متعدّدة من الواقع- تُعتبرَ هندسة في المعمار القصصي يقوم فيها نموّ الأحداث وتطوّرها على الازدواجيّة التي تضمن التّقدّم الحدثي سواء كان مادّيا أو نفسيّا أو فكريّا. ويمكن أن نستدلّ على ذلك بنماذج من القصّة على هذه التقنية في البناء:
أ- المفارقة بين محلّات الكونتيسة لبيع ملابس السّيّدات والهدايا وبين الباعة المتجوّلين والمنتصبين انتصابا فوضويّا فوق رصيف عمارة الشّورابي.
ب- المفارقة بين المستوى العلميّ الذي بلغتهُ الشخصية المحورية ” سهير كامل القليوبي” ( الإعداد للدّكتوراه) وحالتها الاجتماعية المزرية التي اضطرّتها لتكون واحدة من الباعة المارقين عن القانون.
ج- المفارقة بين بداية القصّ ( الورطة) ومآله ( إخلاء سبيل البطلة).
د- المفارقة بين الحلم ( ما تُخفيه تداعيات الفريسة ( سهير) والصّيّاد ( الشّرطيّ)).
على هذا الإيقاع المزدوح، وعلى هذه الهندسة المعماريّة السّرديّة، تتأسّس قصّة ” جرح غائر”. وهو بناء يستمدّ توازنه من متانة هذه الثّنائيّة التي تستمدّ هي بدورها حيويّتها من حركيّتها الضّامنة لنموّ الأحداث تماما كما تضمن قَدَمَا الإنسان له، عمليّةَ المشي والتّقدّم.
ولا مناص من التّنويه بدور ” الوصف” في استمام تصميم الحكي. حيث ورد الوصف في شكل محطّات ووقفات على امتداد القصّة ولعب دور استرداد الأنفاس لاستعادة القدرة على التّقدّم والسّير إلى الأمام. وقد امتاز الوصف بالدّقّة وجودة انتقاء الموصوف خاصّة في ما يتعلّق بملامح الشّخصيّة باطنيّا وخارجيّا.
2/ في ترابط البناء بالدّلالة
يبدو أنّ الخلفيّة الاجتماعيّة والسّياسيّة للكاتبة وأنّ مواقفها من بعض القضايا كان مؤثّرا بشدّة في اختيار معمار القصّة القائم على ” المفارقة”، ممّا أدّى إلى تحقيق الانسجام بين البنية القصصية ومواضيعها. والكاتبة بذلك تؤكد أنّ لا فصل بين الفنّ والموضوع بل إنّ الجمالية لا تتحقق إلّا بالانصهار بين هذا الجانب وذاك… والكاتبة بذلك تنهل من مشارب مدارس فنّيّة متعدّدة سواء تلك التي ترى أنّ مهمّة الفن هي تغيير الواقع وتثويره أو تلك التي تحصر دوره في الإمتاع والإلذاذ بالتركيز على ما هو بويتيقيّ.
إنّ المفارقة التي اتّكأ عليها البناء تتجلّى دلاليّا في بنية الشخصيات التي تمثّل نماذج عن فئات اجتماعيّة تحمل هموما مختلفة.
أ- المعاناة الاجتماعيّة: تُذكّر القصّة ( قصّة البطلة سهير) بفصول من حياة الأديب العربي أبي حيّان التّوحيدي الذي ذيّل كتابه ” الإمتاع والمؤانسة” برسالتيّن للوزير ابن سعدان يشكو فيهما الفاقةَ والحاجة وهو الأديب المفكّر. فالمفارقة بين الصّفة ( مثقّف) والحالة الاجتماعية ( الفقر المدقع) تحيل على أزمة رجال الفكر في مجتمعات لا تحترم الفكر وهذا ما تُجسّده شخصيّة البطلة في القصّة. فهي رغم وضعها الاجتماعي المنهار تسعى إلى تجاوزه عبر التّقدّم في مراتب العلم وتضطرّ إلى القبول بأيّ عمل لتحقيق أحلامها. فتجسّم بذلك خصائص البطل الإشكالي الذي يبحث عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور…
إنّ تردّي منزلة العالم أو طالب العلم يدلّ على مدى الهبوط الذي يشهده المجتمع الذي يعيش فيه، مجتمع لا يُقدّر الرّقيّ المعرفي والعلميّ نتيجة سياسات خاطئة وسياسات عقيمة تُبقي على رداءة الواقع إن لم تزد في انتشارها.
ويبدو أنّ هذه المعاناة حالة عامّة وشاملة لمختلف الفئات الاجتماعيّة فلم تكن شخصية البائعة/المثقّفة هي النموذج الأوحد المعبّر عن موت الحلم وانتهاء الأمل في حياة كريمة بل إنّ شخصيّة الشرطيّ نفسه رغم الحصول على الوظيفة إلّا أنّه حلم بمنزلة أفضل. تراه يفكّر بالماضي ويستحضر مختلف السّيناريوهات التي كانت ستحصل لو توفّرت الظّروف المناسبة لتحقيق ذلك. لكنّ الواقع المأزوم قتل أحلام الجميع.
ب- المعاناة السّياسيّة: لم تكن التّداعيات التي عاشتها ” سهير” إلّا استقراءً خفيّا لواقع سياسيّ لا يقبل بحُرّيّة التفكير والتعبير، فصورة الأب التي بقيت راسخة في ذاكرة ابنته وعلى ظهره آثار التّعذيب تحيل على واقع قمعيّ مستبدّ، لم تُفصّل الكاتبة ذلك ولم تُصرّح به ولكنّها رسمت ذلك الواقع من خلال ما ترسّخ من صورة الأب ( المعارض) في العقل الباطن لابنته.
وعموما تبدو أحداث القصة في بعديْها الاجتماعي والسّياسي مترابطة بالواقع ارتباطا وثيقا عبّرت عنه الكاتبة بنمط قصصيّ حقّق الإمتاع والإفادة.
3- آليات الحكي:
استعملت الكاتبة هدى مختلف تقنيات القصّ ( السّرد/الحوار/الوصف) ونضّدتْ ذلك بحِرفيّة عالية حيث جعلت لكلّ موضع تقنيته المناسبة، فجاء السّرد مقترنا بمواطن الفرّ والكرّ في مشهد مطاردة الشّرطة للبائعة المارقة عن القانون. وانقطع حبلُهّ ( أي السّرد) بالحوار في المواطن التي تتوقف فيها الحركة، حين يتدخّل الحاج مهدي لإنقاذ الفتاة فينشأ حوار على مراحل مضبوطة بينه وبين الشّرطيّ، ثم لاحقا متقطّعا ( كأنّه حوار من جانب واحد) بين الشّرطي والفتاة.
وبين هذا وذاك تحضر الكاتبة ( غير المُحايِدة) عبر تقنية الوصف، فتكشف عن بعض شواغلها وتعبّر عن شيئ من خلفياتها الاجتماعية ومواقفها من الواقع.
غير أنّ أهمّ شيئ في تقنية السّرد هو إقامته على أساليب التّذكّر والتّداعي وهي أساليب وإن أثّرت في بنية الزّمان فجعلته يتّسم بالانكسار واللّاخطّيّة فإنّها لعبت دورا كبيرا في الكشف عن هموم الشخصيّات ( الفتاة والشرطيّ تحديدا). فقد مكّنت هذه الأدوات
من تحليل الشّخصيّات تحليلا بسيكولوجيّا واجتماعيّا شاملا وتحميلها مواقف متعدّدة من ظواهر اجتماعية وسياسية تنخر المجتمع ولا تنتج إلّا فئات اجتماعيّة مرهقة ومتأزّمة.
إنّ التّداعي والتّذكّر من الوسائل التي يستعملها الطّبيب النّفساني لمعالجة الحالات المرضيّة التي يباشرها وقد استغلّ المشتغلون بالأدب تلك الآليات وتوظيفها في رسم ملامح شخصياتهم ودسّ المواقف الذّاتيّة فيهم وإنطاقهم بها وهذا ما يتجلّى في العمل القصصيّ الذي قامت به الكاتبة هدى عند بناء نماذج شخصيات مسرودها.
بلون رماديّ حينا وأحمر حينا آخر ترتدّ ذاكرة سهير كامل القليوبي إلى الماضي فيعبّر اللّونان عن ماض مشؤوم سمته القمع والاستبداد في صورة الأب الضّحيّة وقد خلّف ذلك كمّا من الحزن العميق والغضب الصّاعق إلى حدّ النّقمة والحقد الدّفين… كذا هي مخلّفات الممارسة السّياسيّة القمعيّة.
والتّذكّر والتّداعي يطالان شخصيّة الشّرطيّ أيضا ذاك الذي حلم أن يكون في منزلة خاله شكري لولا أن خذله مجموعُهُ… فلعنة الفشل في تحقيق ذلك ظلّت تطارده ولم تفارق وعيه الباطني… لذلك ظلّ مسكونا بالحزن وبالإحساس بالفشل الذّريع