قبل أن ينبري المتمترسون للدفاع عن أوحدية الولايات المتحدة وأهميتها وقدراتها، أؤكد، ان هذا المقال، لا ينكر الموقع الجيوستراتيجي المتفرد، ولا الاهمية العالية لموقعها في خارطة التوازنات الدولية، ويعترف بقدراتها ونفوذها اللامحدود في معظم بقاع الارض، فضلا عن إمكاناتها العسكرية والامنية والاقتصادية والعلمية، ووجود منظومة مؤسساتية عميقة تقوم على أساسها الدولة، والاهم من ذلك، القدرة الامريكية المتميزة على توظيف كل ما حولها مهما كان في خدمة مصالحها، إلا ان كل ذلك، لا يمنع من الحديث بطريقة مختلفة عن امريكا، بناء على معطيات وآثار وحقائق تتكشف يوما بعد يوم.
وعلى الرغم من عدم خلو أي دولة على الخارطة العالمية من نقاط الضعف والخواصر الرخوة والمناطق الهشة إلا ان الامور تبقى تحت السيطرة او قابلة للتدارك، ما لم، يكون منعكس هذا الخلل ظاهراً بشكل مباشر وواضح على مؤسسات السلطة العليا، وقد وصل أثره إلى آليات الحكم وإدارة البلاد، فالسلطة وإن كانت عنصرا من عناصر الدولة، لكنها العنصر الذي يمكن استيضاح حالة الدولة من خلاله.
إن احد اهم المنجزات التي تتغنى بها السردية الامريكية، هي الحياة السياسية الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، وقدرة السلطة المنتخبة بعد تجاوز مرحلة السباق الانتخابي على العمل بالعنوان الوطني العام بعيدا عن الخصوصيات الحزبية، إلا ان امريكا الجديدة، ومنذ مرحلة بوش الاب إلى لحظتنا الحاضرة، تكشف عن هشاشة سياسية تضرب في اعماقها، وقد وضح هذا الامر بشكل جلي منذ الترشح الاول لترامب ثم فوزه والمرحلة التي تلت ذلك.
لم يخلو تاريخ امريكا من العنف السياسي، وقد شهدت اغتيالات ومحاولات اغتيال واستقالات روؤساء، فضلا عن الاختلافات الحادة على قضايا مصيرية مثل حرب فيتنام وافغانستان والعراق وملفات اخرى، إلا ان ذلك، سار بطريقة تختلف عما يجري ويحدث في امريكا اليوم، فإمتناع ترامب من حضور حفل تتويج بايدن بعد ان فاز بالرئاسة، ثم دخول اتباعه الى مبنى الكونغرس، وما جاء من بعدها من احداث، تراكم وتؤكد فكرة الهشاشة بشكل كبير، إذ بقيت الانتخابات محل تشكيك واتهام بالتزوير او بتوظيف عوامل خارجية (روسيا، الصين،.. الخ) لغرض التاثير على النتائج، وهكذا نحن امام رئاسات امريكية تتنافس على السلطة في ذات الوقت الذي تقف فيه امام المحاكم بجرائم وإدانات، وإن هذه الجرائم ليست مخالفات بسيطة، بل يرقى بعضها الى حد الخيانة العظمى.
لم يكن مشهد الهشاشة موقوفا عند هذه الحدود، بل، سرى وجوده بوضوح الى الحياة السياسية، فالجدل الذي يتزايد حول بايدن واهليته وامكانية استمراره في قيادة البلد، ومن قبله، الجدل/الصراع، الذي ظهر في داخل الحزب الديمقراطي حول تنحي بايدن من الترشح، ثم الاختلاف والجدل على شخصية كاميلا هاريس الاكثر حظوظا للترشح كبديل عن بايدن، وطبيعة المؤاخذات التي بدأت تكشف عن تاريخها، بوصفها إمرأة لعوب، عليها الكثير من المؤخذات الاخلاقية فضلا عن ضعف قدراتها السياسية، يوضح، الشكل والوضعية التي بلغتها مؤسسة الرئاسة في امريكا.
وفي ذات السياق، تكشفت هشاشات في مفاصل ومؤسسات امريكية، كان المثل يضرب بقوتها وتحكيمها، إذ جاءت محاولة اغتيال ترامب (بغض النظر عن دوافعها) لتضع اكثر من خط تحت قدرات المؤسسات الامنية الامريكية، ويتضح ذلك جليا لمن شاهد عملية استجواب مديرة وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ، والذي اظهر عجز هذه الوكالة المعروفة بتأريخها الاستخباري، والموقف المتحامل والناقم من قبل اعضاء الكونغرس، والمؤخذات العميقة المسجلة على أدائها.
إن مشهد الانتخابات القادمة سواء ادى الى فوز ترامب، وهو ما يرجحه الكثيرون خاصة في ظل الدعم المالي والمعنوي الذي يتلقاه ترامب من داخل وخارج امريكا، ومن يتابع الاعلام الخليجي، يلاحظ ذلك بوضوح، او ادى إلى فوز كاميلا هاريس وهو امر مستبعد، فضلا عن فوز مرشح ديمقراطي آخر، يعني ذلك بوضوح، اننا امام امريكا منقسمة من العمق، ومع ترامب، نسخة شعبوية مفرطة، تأتي متمترسة بحنق لتصفية الحسابات مع كل الخصوم، والذي يعني، ان الدور الامريكي الخارجي، سوف يكون اكثر سلبية من ذي قبل، وان انتظار تسوية بعض الملفات على اساس حسم الانتخابات الامريكية، لن يؤت بما هو متوقع منه، بل، نحن، امام نسخة امريكية اضيق افقا، وابعد عن الوعي الاستراتيجي، واكثر تغليبا لما هو آيدلوجي تحت مختلف المسميات، والذي يساوي المزيد من الاضطراب في مسارات النظام العالمي.
ومع ان هذه القراءة تنطلق من مكانة امريكا في مسار النظام العالمي، إلا انها، لا تستبعد تحقق مسار آخر، يستثمر في الهشاشة الامريكية وتداعياتها، ويتجه بشكل اكبر نحو تعميق نموذج النظام العالمي متعدد الاقطاب، بل، يسمح بإنزياح المحور الصيني/الروسي/وآخرون، بشكل أكبر الى مساحة التاثير العالمي، ويعيد ترتيب اوراق الكثير من الملفات على أسس جديدة.