يثبت المخرج فيصل الراشد أن تجربته في المسرح تمضي قدما في تكريس شخصية لها ملامحها الخاصة، لا تشبه أحداً، ولم تتأثر بأحد. وفي عرضه الجديد يتقدم نقلة آخرى على صعيدي البناء الدرامي للنص، وعلى صعيد تقديم عرض تتكامل فيه المتعة والفائدة، وهي أهم غايات الفن، عبر تقنيات بسيطة، وعادية، تنتمي إلى ما يسمى “المسرح الفقير” الذي عمل الراشد من عودته بعد دراسته للإخراج المسرحي في جمهورية بولندا على تكريسه في سورية.
في عرضه الجديد (مسخ كافكا) يلعب الراشد لعبة الإيهام – منذ عتبة العنوان- بأنه يقدم مسرحية للكاتب التشيكي (فرانز كافكا) 1883-1924م، مستندا في إيهامه إلى نص بالعنوان نفسه (المسخ) لكافكا، وبالتالي يظن النظارة أنهم يتلقون عرضا معداً دراماتورجيا عن نص كافكا، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً. إذ يستند فيصل الراشد في مسرحيته ككاتب مسرحي فضلاً عن دراسته للإخراج المسرحي في بولونيا، وهو –بالمناسبة عضو جمعية المسرح باتحاد الكتاب العرب- وبالتالي فإن خبرته في الكتابة انعكست بشكل إيجابي على البناء الدرامي للنص المسرحي.
( ملخص القصة)
ومع أن النص ينتمي في تقنياته الفنية إلى فن (المونودراما) وهي أصعب أنواع الكتابة المسرحية، فأنه نجح في جعله عرضا ناضجا. ربما لإن فيصل الراشد متمكن من أدواته في البناء الدرامي للنص وأدواته، وهي اللبنة الأساس لنجاح العرض المسرحي. كما جعل النظارة لا يشعرون أنه (مونودراما) إذ وضعهم في إطار عرض مسرحي متكامل البناء الفني والدرامي، وهذه نقطة تحسب لصالح الكاتب-المخرج.
والقصة تتكشف أبعادها من خلال البوح على لسان الممثلة، لكنه أصر على تمثيل المشاهد المستعادة على المسرح ليرسم أبعاد الحدث الدرامي كاملاً بتفاصيله ومعطياته، وأسبابه وموجباته. الفتاة التي هجرها حبيبها في خضم الحرب التي تتعرض لها البلاد، وتركها فريسة الفراغ واليأس. هي تعمل في (دائرة الأحوال المدنية)، وهذه إشارة ذكية تجعلها على اطلاع على واقع المجتمع. مع ذلك لم تستطع الصمود أمام كم المشكلات التي تشكل ملايين القصص.
هذا الفراغ العاطفي والزمكاني اقتاده لأن تكون فريسة زواج غير متكافيء من رجل متزمت خمول، تقنع بملابس الدين ليمارس خموله ومهاماته في مراقبة الناس وتصيد هفواتهم ليكتبها على شكل تقارير لم توفر حتى زوجته التي تم اقتيادها بتقرير كيدي بعد أن طردته أمها من البيت، لتذهب إلى المعتقل حيث لقيت صنوف العذاب، والاضطهاد والاغتصاب. تلك الإرهاصات المرعبة التي اقتادتها إلى أعقد الحالات النفسية التي كنت الجسر الذي حمل العرض.
(التكامل بين النص والعرض)
وبالنظر إلى مسطرة النقد فإن أي مسرحية تفتقر إلى البناء الدرامي والفني هي مجرد عرض لا ينتمي إلى فئة (الدراما) بل يمكن تصنيفه في أي من الفنون المسرحية الأخرى، وهو ما شهدناه في الكثير من العروض التي تفتقر إلى تقنيات الكتابة المسرحي بالنظر إلى مقولة أساس تنطلق من “إن الحوار لا يقيم هي عمل درامي”، كما أن (السرد) و(الوصف) لا يمكن أن يقيم هيكل عمل روائي، ومن هنا فإن الحبكة والصراع وتناميه إضافة إلى تنامي الشخصيات عبر الأفعال المجسدة في العرض، أو في متن الرواية المسرحية هي التي تجعل الناقد يحكم على هذا العلم أو ذاك، وبهذا تخرج الكثير من العروض من إطار “الدراما المسرحية”.
وبالعودة إلى المقارنة بين نص كافكا، ونص فيصل الراشد قبل أن أتطرق لتقنيات العرض، سنجد أن المسخ في نص كافكا هو رجل يتحول إلى دودة…إلخ في حين نجده في نص الراشد امرأة تمسخ إلى فرس أو حصان، وثمة فارق واضح استفاد منه الراشد في التركيبة النفسية للشخصية الرئيسة، وهي استفادته من (علم النفس التطبيقي) بمعنى أن اللعبة الفنية هنا تدور في إرهاصات المريض الداخلية، وليس منفلته من عقالها لتشكل تهويمات واقعية عند كافكا. وأيضا لا بد من الإشارة إلى استخدام الصهيل في توظيف موفق حيث أن الفرس تصهل في حالات السلم لاحتياجها إلى الحصان، في حين يصهل الحصان في الحرب. هذا التوظيف كان موفقا في العرض ليوحي بالكثير مما يحتبله النص. لن أتطرق إلى الأبعاد التي تتعلق بالإسقاط التاريخي والسياسي للنص، وانما سأركز على معالجته للواقع في سورية في إطار إرهاصات الحرب التي تركت نظوبا عميقة على كل فرد عايش الازمة، وانعكست في أزماته النفسية. إنه نص واقعي بدرجة فائقة، وشائقة .
ومما لا شك فيه أن كافكا تأثر في قصة المسخ بالتراث العربي من خلال اطلاعه على كتاب (الليالي العربية) الذي طبع قبل نحو قرنين من عصر كافكا في بريطانيا، والراشد تأثر أيضا بذلك وبغير قصة من قصص (ألف ليلة وليلة) التي تتحدث عن المسخ، وأجرى بحثا واسعا عما إذا استخدمت ثيمة الحصان في المسرح من قبل على هذا الشكل، وأعتقد أن (بيتر بروك) استخدمه في أحد عروضه بمهرجان أفينيون، كما قدمت مسرحية تعالج ثيمة الحصان في الجناح الروسي بمعرض دمشق الدولي القديم وكانت من بطولة قصي خولي. لكن الاختلاف بين النماذج الثلاث كان واضحا، ويبدو أن الراشد لم يتأثر بالنموذجين السابقين.
إذن ثمة فارق كبير بين المسرحيتين من حيث الأحداث والحبكة وحتى الصراع والوقائع، ولا يتشابها إلا في الإسم فقط. لكن زج الراشد باسم كافكا في المسرحية يندرج في أحد أمرين: إما للإيهام بأن هذا النص لكافكا، وأن المخرج قام بعملية دراماتورج على النص الأصلي، وإما وفاء من الراشد لفكرة المسخ التي كتب عنها كافكا، واستلف الفكرة منه. هي فكرة لا أثكر، إنما النص كان مفارقا تماما لما جاء عند كافكا. وبتالي سنرى أن المرأة (بطلة العرض) تعيش بيننا في دمشق، وعانت ويلات الحرب في سورية، وعاشت إرهاصات نفسية رهيبة أدت بها إلى هذه الحالة من الفصام، بل والجنون بعد موت أختها حرقا في فرن مدينة عذرا العمالية. وأيضاً معاناتها في ابنتها، وفي زوجها واغتصابها.
(العرض)
منذ اللحظة الأولى يدخلك العرض في صدمة الصراخ. صراخ امرأة في حمام تفاجأ بوجود أناس أمامها (شرطية المشهد تبدو غير منطقية، المنصة حمام في شقة عادية) وأيضاً ردة الفعل من المرأة تبدو غير مألوفة. واضح أن المرأة تلبستها حالة نفسية معقدة. تخاطب الحضور بشكل مباشر مستنكرة أنه اقتحم حمامها، في انعكاس نفسي مفاجئ ترضى عن الحضور مبررة ذلك بأنها تذكرت أن الجميع أتوا للاحتفال بعيد ميلادها الذي يصادف اليوم. تتلبسها حالات نفسية مختلفة، لكن صهيل الفرس ولجامها الذي تضعه في فمها هي الجسر الذي تعبر عليه كل الحالات. يمور في داخلها شعور بالمرارة، وتتبدل حالاتها النفسية المعقدة لتنعكس في تصرفاتها. لقد استفاد المخرج من علم النفس التطبيقي الذي تأثر به المسرح الأوروبي فالأميركي بعد أن طرحه (سيغموند فرويد) على بساط البحث في العلوم الإنسانية وتأثرت به ضروب الأدب والفلسفة، وما عتم أن خرَّج عليه تلميذه (يونغ) في تحليلات أدت إلى فهم أعماق النفس البشرية وردات فعلها إزاء القضايا النفسية المعقدة، كما ناقش إدلر العديد من المسائل التي جعلت علم النفسي التطبيقي مار بحث لكتَّاب المسرح ومخرجي المسرح والسينما في العالم.
لقد درس الراشد تلك الأبعاد النفسية لتلك الشخصية – بطلة مسرحيته، وزودها بتنوع الحالات التي تغري أي ممثلة محترفة بخوض غمار هذه التجربة. مع ملاحظتي على بعض الأمور في لغة الجسد، إلا أن التشكيلات الجسدية التي رسمت للممثلة في العرض كانت لوحات مبهرة، وكانت كل منها شكلت لوحة فنية أسهمت في لغة موازية لتؤثر بالجمهور بطريقة التعبير عبر تلك اللغة الحركية. كما أن الصوت للممثلة – البطلة (رايسا مصطفى) كان معبراً، ومتنوعاً بتنوع الحالات النفسية التي جسدتها الخشبة، كما كان مؤثراً في كثير من الأحيان، وأفلتت بعض الهنات التي تحتاج –ربما- إلى تدريب أكبر، لكنه واضح أنها وصلت بمعاناتها إلى تلك المطارح الصعبة في التعبير الصوتي عن الحالة النفسية المعقد التي تعيشها. إن الممثلة بلا شك تصدت لدور صعب، يلزمه الكثير من الخبرة والمران، عدا عن أنه دور في عمل مونودرامي تهابه كبار الممثلات، وذلك لعمق التركيز، ومحاولة عدم جعل الجمهور يتراخى لحظة واحدة عن المتابعة، وهذا يستلزم تدريبات تكنيك جسد ترافقه حركات رياضية مضنية، فضلا عن الخبرة في القدرة على التعبير بالوجه والصوت والجسد. ومع ذلك كانت (رايسا) تطير كفراشة أحيانا، وتصهل كفرس جموح رافضة واقعها الأليم، وتنكسر حين يقتضي المشهد، أو الحالة النفسية ذلك، وترقص بمرح وإغراء مع الانتقالات النفسية العميقة التي تعتريها بحالة أشبه بالهلوسة والجنون.
أمام هذا الدور الصعب لا بد من القول: إن الممثلة كانت ناجحة بالمجمل، وإن كان بالإمكان ترميم بعض الهنات، لا سيما في الاستهلال الذي ربما كان يستحق أن يبدأ هادئاً قليلاُ ثم يرتقي شيئاً فشيئاً إلى ذروة أولى.
معروف أن فيصل الراشد لا يقدم عرضا مسرحيا لا يطرح فيه شيئاً جديدا، من الفكرة إلى الطريقة إلى مآلات العرض والنص. وهذا العمل لا يخرج عن مسيرة الراشد المسرحية. الفكرة القائمة على عمل بكامله في حمام منزل، وكأنها عملية اغتسال من أدران الواقع. ملابس الممثلة كانت مجرد منشفة كبيرة للحمام تستر جسدها طوال العرض حتى عبارات النص في من الجرأة المعروفة في مسرح فيصل الراشد والذي لا يتورع عن ذكر الأسماء بمسمياته حتى ولو كانت نابية أو خادشة للحياء. كتلك القرصة التي تعرضت لها من صبي من غلمان الحي، فبعد أن ضربته بالكرباج، الذي هو لجام الفرس (أكسسوار الفرس- المسخ المتخيل في عقلها الباطن) فوراً تحولت حالتها الغاضبة إلى حالة استحسان ووصفت المتحرش بأنه “سكسي”. وكذلك عبرت في مشهد من أكثر المشاهد تأثيراً وروعة عندما تحدثت عن الزنزانة بعد عملية اغتصابها، كيف أن الجلاوزة راحوا يكيلون لها الضربت على الأماكن الحساسة من جسدها بعد أن استمتعوا بها، ولم تتورع أن تذكر الأسماء بمسمياتها أيضا. لكن مشهد الاغتصاب لم يكن به إغراء بقدر ما عكس القهر داخل الشخصية.
(السينوغرافيا)
قدمت الفنانة والأستاذة سهى العلي مهندسة السينوغرافيا للعرض احتياجاته الفنية من دون إفراط أو بهرجة، ولا تقتير. لقد درست جوانب العرض ومفرداته ورسمت له الخلفية والأكسسوارات كما ينبغي. جدار الحمام الذي يتوسط المسرح مع كرسي تم استخدامه لأغراض عدة كجزء من الحلول السينوغرافية الذكية إضافة إلى تعليقها الأكسسورات على الجدار، واستخدام الحبال لتنزيل شخصية الطفلة من سقف المسرح، وكذلك طليق الزوجة على شكل (مطرة-بيدون) تظهر عليه صورة مشوهة للزوج الذي يتعرض لانتقام تعبيري بأن تدوس ، زوجها السابق الذي المخبر، بقدميها، في لقطة خيالية مبتكرة.
لقد تم تحديد الأفعال والأفيكتات بدقة مع الموسيقا التصويرية وقطع الديكور وكيفية تحريكها بين مهندسة الرؤية البصرية والمخرج بشكل سلس وحلول مبتكرة.
وكذلك كانت الموسيقا التصويرية والمؤثرات الصوتية التي نقلت للمشاهدين جو الكوابيس التي تعيشها البطلة من دون إفراط أيضاً.
حتى البروشور، كان دقيقا في تعبيره عن مضمون الشخصية، فقد تنبه إلى حالة الفصام التي تعاني من الشخصية متخيلة نفسها نسخا لفرس، فجاءت صورة الغلاف بعينين، إحداعما للأنثى والثانية للفرس، لتكريس مفهوم إرهاصات المسخ الذي تعيشه الشخصية الرئيس.
معروف عن فيصل الراشد بانه يقدم عرضا جرئياً في كل مرة يقتحم فيها الخشبة، لقد كان جريئا في عروضه السابقة جميعاً: المخرج والطباخ، زوج متين من الجوارب، أخوكم ففي الإنسانية، امرأة حافية، والوصية. وفي هذا العرض يقدرم جرعة جدية من الجرأة في كل جوانب العرض بدءا من النص وعبر طريقة الإخراج إلى العبارات التي يتلفظ بها أبطال العرض، ما يؤكد أن الرائد من المخرجين السوريين الذي يعون ما يريدون.
الفكرة القائمة على عمل تدور أحداثه كاملة في الحمام (وكأنها عملية اغتسال من أدران الواع وكوابيسه). ملابس الممثلة لا تتعدى مجرد منشفة كبيرة تلف بها جسدها. حتى عبارات النص فيها من الجرأة الكثير. وهي إحدى أدوان مسرح الراشد بما فيها الكلمات النابية عندما يرى أنه يجب استخدامها، غير آبه بأن تخدش الحياء طالما جاءت في وقتها. مثال على ذلك عندما تحدثت عن الصبي الذي تحرش بها، وبعد أن ضربته بالمقرعة التي استخدمت كلجام للفرس، واستخدامات أخرى، عادت فجأة لتستعذب حركة التحرش تلك ووصفته بأنه “سكسي”. كذلك في المشهد الذي تتحدث فيه مستذكره عمليات تعذيبها في المعتقل، وهو أحد أهم مشهدين قويين في المسرحية: المشهد الأول هو الاغتصاب الذي تعرضت له، يقدمه المخرج بطريقة مبتكرة حيث تنام على الكرسي مشبوحة الرأس باتجاه الجمهور، وترفع فخذيها العاريين باتجاه عمق المسرح متمثلة حالة الاغتصاب. والمشهد الثاني عندما يتم ضربها من قبل الجلاوزة على الأماكن الحساسة من جسدها التي استتمعوا بها من قبل. هنا لا تتورع عن ذكر الأشياء بسممياتها. كل ذلك من دون ابتذال أو إغراء.
مسرحية (مسخ كافكا) إضافة مهمة لتاريخ المسرحي فيصل الراشد الذي يفكر كيف يصنع عرضاً للذكرى.
بطاقة العرض:
__________
مسخ كافكا.
نص وإخراج ؛ فيصل الراشد.
تمثيل : رايسا مصطفى.
سينوغرافيا: سهى العلي.
تصميم إضاءة: إياد العساودة.
مخرج مساعد: خوشناف ظاظا.
موسيقا: عيسى نجار.
تصميم تلإعلان: راما بدوي.
فوتوغراف: احمد سلام.
الفنيون:
تنفيذ إضاءة: راكان العصيمي.
تنفيذ صوت: براء الجباعي .
مديرة منصة: إخلاص الشوا،