تعتمد الكتابة الأدبية على الخيال الحر الذي يخلق العوالم ويفترض الأحداث وينسج الحكايات، وكلما كان خيال الكاتب ثريا وخصبا، كانت كتابته أجمل وأقدر على استكشاف مواطن جمال أخرى لا تخطر على بال القراء، وكثيرا ما اعتمد الحكي والقص منذ بداياته الشفاهية على العوالم الخفية والسرية، فلجأ إلى الجن والعفاريت أملا في خلق مساحات أخرى وهربا من أسر الواقع وشروطه وتعقيداته، وجاء العلم ففتح بابا آخر للعقل وملاذا جديدا للإبداع، فكانت الفرصة مواتية للاستفادة من التقنيات الحديثة ومزج الخيال بالعلم والانطلاق نحو ما يمكن أن يكون واستشراف المستقبل.
في كتاب “أدب الخيال العلمي” الصادر في تسعينات القرن الماضي، تحدث الناقد السوري محمد عزام عن أصول ذلك النوع من الأدب وبداياته في التراث الشعبي والأساطير التي عرفها العرب قديما، ويشير إلى أن “أدب الخيال العلمي نوع من المصالحة بين الأدب والعلم أو محاولة للتوفيق بينهما، ففي البداية استلهم العلماء من الأدباء ثم تجاوزوهم فأصبح الأدباء في مرحلة تالية يلهثون وراء اكتشافات العلماء واختراعاتهم”.
فمن المعروف مثلا أن روايات جول فيرن وهـ ج ويلز تنبأت بالكثير من الاكتشافات والاختراعات، بل قادت العلماء إلى تجارب ما كانوا يفكرون فيها، بيد أن التطورات العلمية المتسارعة تجعل من الصعب أكثر فأكثر على الأدباء، حتى أولئك المتخصصين في أدب الخيال العلمي، ملاحقة تلك الاكتشافات والاختراعات، فلم يعد من سبيل لديهم إلى أن يمدوا حبال خيالهم لافتراض ما يمكن أن يكون عليه العالم في السنوات اللاحقة.
وفي العالم العربي ظهر عدد من الروائيين الذين اهتموا بهذا الجانب الذي يبدو مهجورا من الخيال، وسعوا بطرق مختلفة إلى سبر أغوار عالم الخيال العلمي وما فيه من غرابة وغموض، سواء كان ذلك من خلال الحديث عن مستقبل الأرض في ظل تغيرات متلاحقة قد ينتج عنها ظهور كائنات أخرى تتعايش معنا، أو الانطلاق إلى عوالم الفضاء وشكل الحياة المحتمل هناك، أو من جانب آخر سيطرة وسائل التكنولوجيا الحديثة على عالم اليوم وما يمكن أن يتركه ذلك من آثار ذلك على حياة الأفراد والمجتمعات.
“نزوح”
حبيب عبد الرب سروري
إلى عالم الفضاء يأخذنا الروائي وأستاذ علوم الكمبيوتر اليمني حبيب عبد الرب سروري في رواية “نزوح” (دار الساقي 2024) لنجد أنفسنا إزاء تجربة سردية مختلفة تعتمد على التطورات العلمية الخاصة باستكشاف حياة أخرى بعيدا عن الأرض، ولكنها تنطلق إلى الغوص في تفاصيل النفس البشرية في الوقت نفسه، إذ تقوم على بحث إمكانية إقامة علاقات إنسانية حميمة خارج منظومة العلاقات المعهودة، وتمزج بين الإنسان والطبيعة وعلاقات الحب والصداقة والمغامرة.
تبدأ الرواية بالحديث عن مركبتين فضائيتين أطلقتا بحثا عن الحياة في الفضاء، في كل مركبة خمسة أفراد، يحمل كل واحد منهم أحلاما وآمالا عريضة للعيش هناك، ويتقرر أن تكون المدة الزمنية التي تجمعهم سويا في الفضاء قرابة عام ونصف العام، مما يقتضي أن تنشأ بينهم علاقات وثيقة، لا تقتصر على الصداقة والتعايش والأكل والشرب، وإنما تتطور لتتضمن علاقات حب وزواج بين نساء هذا الطاقم ورجاله. ولعل هذا هو التحدي والفكرة الأساسية الشاغلة التي تنطلق منها رواية “نزوح”، ولكنها لا تتوقف عندها، إذ يدور الكاتب من خلال الراوي العليم الذي يحكي لنا عن تلك الرحلة/التجربة الفريدة من نوعها حول عدد من القضايا والمشكلات التي يشهدها العالم، وكيف جاء التحول بعد عشرات السنين، فأصبحت التكنولوجيا هي سيدة الموقف، وحلت مكان الخراب الذي صنعه الإنسان على الأرض بعد الحروب والصراعات الدامية التي استمرت عشرات السنين:
“في يوم عصيب كالح تراجيدي، اقتلعت ‘الحضارة الحديثة’ غابات أشجار دم الأخوين، وقضت على آلاف الطيور والنباتات النادرة، لبناء مطارات فضائية شاسعة، ولمد طرق سريعة للسيارات، تتزاحم حولها ناطحات سحاب! كان على مانيارا أن تتكيف مع الواقع ‘الجديد’، وأن تقتحم عالم الحضارة ‘الجديدة’، بالتعلم والمثابرة، بذكائها المشتعل، بالكفاح اليومي. لم يتبق معها، بعد فناء الأرض وسحق أشجارها، غير الاكتفاء بعشق السماء فقط، والحلم بنقل محميات الأرض الزراعية إليها”.
لا يقتصر سروري على عرض تفاصيل الرحلة وحكايات أبطالها، بل يعود بنا زمنيا إلى الماضي من خلال الراوي الذي يحكي عن جده الذي عاش في اليمن زمن الحروب وترك له مذكراته ويومياته التي يسرد فيها تلك التغيرات التي حدثت في العالم قبيل طفرة العلم والتكنولوجيا التي عاشها الحفيد، وأصبح جزءا منها، ويبدو في انتقالاته بين الماضي والحاضر قاصدا التقاط سلبيات ذلك العالم وتوجيه النقد لتلك الحضارة التي شوهت الإنسانية، وتسعى اليوم (في ذلك المستقبل البعيد) إلى أن تصلح ما جرى من خلال افتراض حياة في مكان آخر. وبين الماضي والحاضر ننتقل مع أبطال الرواية وعالمها لنستكشف أطرافا من ذلك الماضي وما جرى فيه، وكيف تحول الناس إليه وما الذي يسعون إليه بعد كل هذا التقدم في مكان آخر، يبدو خارج القيود والشروط، ولكن الإنسان يبقى واحدا مهما تغيرت تجاربه. هكذا تبدو تلك التجربة رائدة وطموحة، سواء على مستوى الفكرة أو التنفيذ والتفاصيل.
“رف اليوم”
نجوى العتيبي
إلى المستقبل تأخذنا الكاتبة والباحثة السعودية نجوى العتيبي في روايتها “رف اليوم” (دار أثر 2022) حيث العالم تسيطر عليه الآلة، نتعرف فيه على “السيد” الذي تمنحه الكاتبة رمزا (ك 9) ويسعى للحصول على “صديق” يطلبه من السوبرماركت، ويفاضل هناك بين أنواع معروضة، فالحاجات الإنسانية أصبحت عرضة للطلب، حتى أنهم يفكرون في استبدال الآباء والأمهات بمنتجات توفر “الخدمة” نفسها. وهناك وحدات أنشئت خصيصا لمراقبة تلك “المنتجات” الجديدة والحفاظ عليها من التلف، وإلا فقدت خصائصها وصارت عاجزة عن تأدية وظيفتها على الوجه الأكمل. ونتعرف من خلال بطل الرواية والتسجيلات التي يقوم بها لما حوله على شكل ذلك العالم الذي أصبح مختلفا تماما عن العالم الراهن، ويبدو فيه تأثير الآلة وحضورها واضحا، سواء على تفاصيل الحياة والمعيشة أو حتى العلاقات بين البشر، ويظهر ذلك بشكل جلي للقارئ مع بطل الرواية الذي يعود إلى التسجيلات التي تخصّ “الجيل السابق” ليكتشف بعض الحميمية التي كانت في العالم القديم، ويصف شكل المباني فيها بأنه يبدو مثل “الرسوم المتحركة القديمة”، ويلاحظ أن كل شيء هناك مصنوع من مواد خشبية أو حديدية أو قماشية، فلا وجود للأسطح الشفافة والزجاجية إلا في أواني الطعام والنوافذ، بل حتى الزجاج لا توجد به “مستشعرات” كما هو الحال في عالمه الحالي.
شيئا فشيئا يحدث للبطل ذلك الانفصال عن عالمه “الآلي/الرقمي” من خلال الذكريات التي تفرض نفسها على عالمه، ومن خلال مقارنات عديدة يجهد بها نفسه، على أمل أن يفهم كيف تحولت الحياة إلى هذا الشكل الجامد، حتى أن أحد مشاهد الرواية يصور العلاقة بين البطل وأمه وكيف تمنع دموعها من الانهمار بعدما واجهها بما يحدث من حوله، وكأن ذلك التعبير عن المشاعر أصبح خطيرا في ذلك العالم فلا يسمح لهم به.
تطرح الرواية تساؤلات وجودية، وترسم صورة شديدة القتامة لعالم المستقبل بعد أن سيطرت عليه الآلة بل وأصبح تفكير الأفراد مقرونا بطريقة التفكير الآلية، ثم هي تورطهم فيما بعد في التفكير بمعاني مثل الحياة والموت، بل وبأفكار حول الخلق والزراعة، هل يمكن أن تكون موجودة بالطريقة نفسها، وهل يمكن جلب النباتات مثلما يجلب الأصدقاء؟ وهل تمتلك تلك المخلوقات الجديدة أحاسيس ومشاعر تؤثر على حياتها أو تدفعها إلى أن تنهي تلك الحياة وتموت؟
في النهاية تقدم الرواية تصورا لثورة الناس على كل تلك الآلات المحيطة بها، ويرقب بطل الرواية الناس وهم يحطمون كل شيء حولهم، ويبدو أن “المدينة الزجاجية” كما يصفها لم تعد قادرة على تلبية طلبات الأفراد فيها، ولا حتى السيطرة عليهم، وتبدو التكنولوجيا على الرغم من كل التطور الذي تعد به عاجزة عن الاستمرار لفترة أطول، وعلى الرغم من الأجواء السوداوية التي يمتلئ بها العمل إلا أن ثمة قدرا من الأمل يتبدّى في السطور الأخيرة، وكأن الإنسان قادر رغم كل شيء على تجاوز هذه الحالة مهما استمرت هيمنتها.
“المساخيط”
محمد عبد العاطي
في حين تتنقّل بنا الروايتان السابقتان، “رف اليوم” لنجوى العتيبي و “نزوح” لحبيب عبد الرب سروري، بين الزمان والمكان، فإن الكاتب المصري محمد عبد العاطي في روايته “المساخيط” (الصادرة عن دار نهضة في مصر في العام 2023) ينقل الكائنات الغريبة إلى الأرض، ويفحص كيف يمكن أن تؤثر بنا، وهل تتحمل الأرض تلك الكائنات الغريبة التي تحضر فجأة لا لاحتلال الأرض، بل لتشارك الناس حياتهم بصورة تبدو طبيعية في البداية، لكنها سرعان ما تتغير وتحمل أبعادا أخرى.
شخصيات
اختار عبد العاطي في روايته، أن يخلق عالم شخصياته بالكامل، فلم يجعلهم آتين من كواكب معروفة (مثل المريخ والمشترى)، بل افترض وجود كوكب (دوجنجواد) تعيش فيه كائنات تشبه الإنسان على الأرض، بل تقرر فجأة أن تعيش على الأرض، وذلك بعد عدد من الأبحاث العلمية الخاصة به.
ولكن كيف يتم ذلك؟ وكيف يتعامل الناس معها؟ وهل تنجح تلك التجربة بالفعل؟ ويتمكن الأرضيون من استقبال الذين سموهم “المساخيط”؟
يختار عبد العاطي لاستقبال هؤلاء الغرباء في البداية فتاة صغيرة هي “ليزا” التي تتعرف على شبيهة لها من ذلك العالم وهي “سيرين” وتمتلك قابلية التعلم منها والتعرف عليها قبل أن يكتشف والداها أمر تلك الغريبة، ويتطور الأمر شيئا فشيئا حتى يصبح حديث المدينة، وينتقل عبر وسائل التواصل الإجتماعي الحديثة فيشغل الرأي العام، وتدور التساؤلات حول ما يمكن أن يحدث مع هؤلاء الغرباء: كيف يتعامل الناس معهم؟
هل سيُدمجون في المجتمع ببساطة، أم أنهم سيبقون غرباء “مساخيط” منبوذين؟
أسئلة العلم
هكذا تبدأ الرواية بتساؤلات تخص العلم والفانتازيا، وتعتمد على أفكار الخيال العلمي التي طالما تحدثت عن وجود كائنات أخرى غير الإنسان في الكواكب المجاورة، ولكنها تنتقل إلى أسئلة أخرى راهنة ومعاصرة.
ربما نلحظها بجلاء اليوم في كيفية تعامل أهل البلاد مع اللاجئين سواء غربيا أو عربيا، وذلك الصراع الذي يبدو مستمرا بين حق المواطنين في أرضهم، وقدرتهم الإنسانية على تقبل الآخر، وهل يكون ذلك التقبل حقيقيا، أم هي مجرد شعارات لم تختبر بالتجارب الفعلية بعد.