مشيته , دوما , عجلى .. أبدا لا يلتفت وهو منهمك في سيره . المرة الوحيدة التي ضبطته فيها ملتفتا , التقت نظراتنا .. ارتسمت ابتسامة لا معنى لها على شفتيه , ثم دلف نحوي بخطوات حثيثة .. فاجأني تصرفه .. اشتغل ذهني بسرعة , حاولت أن أتوقع ما يمكن أن يصدر منه .. حدث كل ذلك فجأة, فعجزت عن التصرف .. عبرت عن ذلك بابتسامة بلهاء استقلت على مبسمي .. حين دنا مني بشكل كبير, ميزت ملامحه .. التوتر باد عليه , وفي عينيه شرود واضح .. ملابسه رغم اتساخها , بدت وكأنها صممت له , وليس لأحد غيره .. كتفاه عريضان وشعر لحيته اعتراه اصفرار مقرف .. انتصب أمامي, خالجني إحساس بالضعف تجاهه .. فكرت أنه يمكن أن يقوم بأي تصرف أهوج .. لا بد من الحزم, وإلا تعرضت لموقف لا أحسد عليه .. ركزت نظري عليه, وقد تحفزت كل حواسـي .. مــد نحــوي يــدا مرتعشـة, أدكنتـهـا أشـعــة الشمـس المحرقة.. خاطبني باقتضاب شديد :
ـ درهما !
فكرت للحظة أن أمنحه ما يريد .. شيء ما هجس بداخلي, جعلني مترددا .. قلت في نفسي إن أعطيته شيئا, فلن يتردد في مضايقتي كلما رآني .. رفعت يدي إشارة للرفض .. ابتسم ببلاهة, ثم انصرف .. تتبعت خطواته السريعة .. لم تبرحه عيناي إلا حين اختفى .. وأنا أرتشف قهوتي, استرجعت حدثا وقع أمام بصري .. حين رأيته يوما يتأبط ركاما من الورق, وهو ماض في طريقه .. فجأة توقف .. أطلق صرخة قوية, انزلقت الأوراق منه .. تناثرت على الرصيف .. هرع إليها, التقطها متلهفا, جمعها فيما يشبه كومة صغيرة .. أخرج عود ثقاب, أشعله, ثم عمد إلى الركام من الورق, فأوقد النار فيه .. تأمل للحظات اللهيب المتصاعد, ثم أخذ يحوم حوله في طقوس غريبة .. بمرور الزمن, اشتد طوافه وزعيقه .. توقف السابلة ليتفرجوا على المشهد .. بغتة وأمام ذهول الجميع, شرع يتخلص من ملابسه قطعة قطعـة .. لم يمض زمن طويل حتــىأضحى عاريا, متجردا من كل ما يستره .. فرت النسوة والفتيات, فيما أخذ الصغار يرجمونه بالحجارة .. لم يلتفت إليهم.. كان مستغرقا في لذة لا مثيل لها .. متحملا الأذى ومنتشيا بطقوسه, ثابر, بتفان مثير, في رقصته .. كانت جلبة الأطفال واحتجاج الكبار قد بلغا حدودهما القصوى .. لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه .. لكن ما إن خمدت النار حتى عاد إليه هدوؤه .. قرفص للحظات .. عمد إلى ملابسه, ارتداها بتؤدة, حين انتهى من ذلك, نظر متحسرا إلى بقايا النار .. في تلك الأثناء أصابه حجر يبدو أنه أوجعه .. التفت إلى الصغار غاضبا, وبشكل آلي انخرط في الجري, يطاردهم .. وأنا أسترجع هذه الأحداث, لاح لي من بعيد, قادما بعجلته المعهودة .. ظهوره المفاجئ أفزعـني .. تمنيـت لحظتهـا , لو كنت قد غـادرت المقهى .. هل سيتوجه نحوي ثانية ؟ اكتسحني الإضراب, فبدا ذلك على تصرفاتي .. حركت أصابعي بعصبية ظاهرة .. ناديت النادل, وكأنني أود الاحتماء به .. قبل أن يستجيب لندائي, كـان الرجل قـد وصل أمام المقهـى .. توقف عن الحركة .. التفت نحوي .. دقات قلبي تضاعفت . أعصابي شدت إلى حدودها القصوى .. وكما توقعت تقدم نحوي بخطوات راسخة .. حاولت تجاهله, فتشاغلت بالنداء على النادل .. لكنه قصدني بشكل مباشر .. انتصب أمامي, ثم تطلع إلي بنظرة ساخرة .. فكرت, هذه المرة, أن أناوله ما طلب اتقاء لشره .. لكن وبشكل يستحيل توقعه, مد يده نحو منضدتي, وضع درهما .. ذهني شلته المفاجأة, فعجزت عن الإتيان بأي رد فعل ..حملقت فيه بعينين ذاهلتين .. ابتسامته المستفزة لا تزال معلقة على شفتيه .. ودون أن ينبس ببنت شفة, استدار نحو باب المقهى, ثم انخرط في هرولته المعتادة .. حين انتشلت نفسي من الصدمة, كان قد اختفى .. جاء النادل.. ناولته ثمن المشروب .. وحين هممت بالمغادرة, امتدت يد النادل إلى الدرهم, فلحقتني عبارته وأنا أعبر باب المقهى :
ـ شكرا أستاذ.