م. ميشيل كلاغاصي – 6/9/2024
على الرغم من حداثتها في تاريخ الدول, لكنها وبفضل الحروب التي خاضتها تتصدر لائحة الدول المحاربة عبر التاريخ, ومع فظاعة ووحشية أساليبها وخططها العسكرية اللا أخلاقية في إدارة الحروب, ومشاهد القتل والدمار والإحتلال والإغتيالات والتدخل السافر في شؤون الدول والشعوب, ناهيك عن هيمنتها وغطرستها وأساليبها و”إبداعها” في العقوبات والحصار والتجويع, ونشرها عشرات النسخ من الأوبئة القاتلة, وهي التي أبادت الهنود الحمر, ولم توافق على استسلام اليابان إلاّ بعد قصفها عام 1945بالقنابل النووية, أمورٌ بمجملها انعكست مشاعر كراهية عالمية وشعبية واسعة تجاهها, حتى الأمريكيين أنفسهم باتوا يخشون جنون ساستهم, ويعارضون إقحام بلادهم في حروب ومعارك وصراعات جديدة, خصوصاً وأن المخاوف اليوم تتجه نحو تزايد احتمالية وقوع الحرب النووية.
في ظل وجود عدد كبير من الدول التي تمتلك الأسلحة النووية, وفي ظل الصراعات وتفاقم التهديدات, وعمليات جسّ النبض النووي المستمر, في عالمٍ دأبت فيه الولايات المتحدة القفز على القوانين ومعاهدات إنتشار الأسلحة بمختلف أنواعها, وسط صمت العالم على جرائم الحرب والإبادة الجماعية القديمة – الجديدة في قطاع غزة والضفة الغربية في فلسطين المحتلة التي تقودها الولايات المتحدة, وفي ظل عجز العالم بكافة منظماته ومؤسساته الدولية على تنفيذ مهمامه في حماية البشر وإلزامية قراراته, تلجأ الدول للإعلان عن عقائدها النووية وعن تغييرها, من بوابة مضاعفة الردع الإستراتيجي وإخافة الأعداء, وفي الوقت ذاته تحاول بعض الدول تأكيد تعقلها وعدم نيتها تنفيذ هجومٍ نووي, وبأنها تكتفي أحياناً بإعتبار أسلحتها النووية جزءاً من استراتيجيتها الدفاعية.
لكن في الحالة الأمريكية اليوم, يبدو أن الأمر مختلف في ظل الأوضاع الدولية الحالية, وبإعلان الرئيس بايدن موافقته على استراتيجية نوويةٍ سرية جديدة، وبحسب التسريبات الإعلامية، فقد وجّه القوات الأمريكية بالإستعداد لمواجهةٍ نووية مع ثلاث دول باّنٍ واحد, بالتزامن مع اقتراب مغادرته البيت الأبيض, إعلانٌ أثار قلق ومخاوف العالم والأمريكيين أنفسهم.
في وقتٍ لم تُعلن فيه تفاصيل الإستراتيجية الأمريكية الجديدة, ولم توضع بين أيدي العديد من مسؤولي الأمن القومي الأمريكيين وكبار جنرالات البنتاغون, وحده مدير مجلس الأمن القومي لشؤون الرقابة على الأسلحة ونزع السلاح “براناي فادي”, تطرق في حزيران الماضي للحديث بأن الولايات المتحدة “لا تخطط لإجراء تجارب نووية”, وبإنها تجدد تأكيدها على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية ودخولها حيز التنفيذ، وكذلك بإلتزام بلاده “بتعليق تجارب تفجير المواد النووية”، بما يثير التساؤل حول غموض تصريحات براناي وتعمده إما إخفاء نوايا بلاده الحقيقية, أو تقديمه إشارة واضحة لإتجاه الإستراتيجية الجديدة نحو الإحتواء الجماعي الذي يشمل روسيا والصين وكوريا الشمالية
إن السلوك الأمريكي تجاه تلك الدول خلال السنوات الأخيرة, دفع روسيا والصين نحو تعزيز شراكة متبادلة المنفعة, ولإجراء مناورات عسكرية مشتركة, كذلك الأمر بالنسبة لكوريا الشمالية وإيران بحسب المصادر الأمريكية, بأنهما اتجهتا نحو تزويد روسيا بالأسلحة التقليدية في الحرب الأوكرانية, مقابل مساعدة روسيا لهما لتطوير برامجهما الصاروخية, فهل تحاول واشنطن الإعتماد على هذه المعادلة لتغيير خططها النووية وتجديدها والتمسك بسريتها ؟.
وفي هذا السياق, وفي ظل تكثيف الهجمات الأوكرانية على روسيا براً وجواً وخصوصاً في كورسك, أكد نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف أن روسيا ” بصدد تغيير عقيدتها النووية, وتخفيف القيود على استخدام السلاح النووي, وذلك رداً على تصرفات الدول الغربية في أوكرانيا”, وبأن موسكو وصلت إلى “مرحلة متقدمة” في هذا الخصوص, على الرغم من شفافية ووضوح عقديتها النووية الدفاعية الموقعة من قبل الرئيس بوتين قبل أربع سنوات, والتي لن يختلف جوهرها بعد التعديل, وستبقى تنص على احتفاظها بحقها في استخدام السلاح النووي, في حال تعرضها أو أحد حلفائها, لهجومٍ نووي أو غيره من أسلحة الدمار الشامل، وكذلك للرد على أي عدوان يهدد أمنها ووجود الدولة الروسية, بمعنى أن العقيدة الروسية النووية الجديدة ستكون كسابقتها ولن تهدد أحداً على عكس ما يدعيه أصحاب الرؤوس الحامية في الغرب, إلاً أنها قد تلجأ نحو تخفيض منسوب الشفافية, وإضافة مفهوم الضربة الإستباقية, للجم أعدائها وردع تماديهم في استهداف الأراضي الروسية, والتفكير الجدي في الحوار والتفاوض لإنهاء الحرب.
وحول السلوك الغربي تجاه روسيا, أوضح الرئيس بوتين أن “السبب الرئيسي للمأساة الحالية في أوكرانيا هو السياسة المتعمدة المناهضة لروسيا والتي ينتهجها الغرب بقيادة الولايات المتحدة”, كما إتهم الغرب بأنه “ينظر إلى أوكرانيا كسلاح في الحرب ضد موسكو”, وحذر القوات الأوكرانية من استهداف محطات الطاقة النووية، واقترح التفكير في “عواقب الرد الروسي المعاكس”, ووصف الهجمات على محطتي زابوروجي وكورسك “بأنها أعمال إرهابية خطيرة”, ومع ذلك جدد تأكيده بمواصلة العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
في وقتٍ لا تزال تُعتبر فيه الترسانة الإستراتيجية الروسية بأنها الأقوى في العالم, لا يزال الأمريكيون يعتبرونها تشكل التهديد الرئيسي للولايات المتحدة, ومع ذلك لن تستثن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة الترسانة الصينية أيضاً, وهي تراقب إهتمام الرئيس شي جين بينغ بتطوير وتحديث الجيش الصيني وترسانته بما فيها النووية, التي لن تكون معصومة عن التغيير أيضاً في ظل الظروف الراهنة, ولن تبقى عند حدود سلميتها وإستراتيجيتها الدفاعية, مع استمرار واشنطن بمضاعفة التهديد التايواني للصين وأقله تهديد مبدأ الصين الواحدة بهدف تفكيكها.
على الرغم من إمتلاك الولايات المتحدة أكثر من /5/ اّلاف رأس حربي, إلاّ أنها تخشى من تطور التحالف الروسي الصيني الإستراتيجي ليشمل السلاح النووي أيضاً, بما يقلص فرص الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بالنجاة, خصوصاً وأن الترسانة النووية الأمريكية باتت قديمة, وبحسب ما يراه ضابط المخابرات الأمريكية السابق “سكوت ريتر أنه في حال نشوب صراع نووي فإن “الولايات المتحدة ستتلقى ضربة ساحقة تدمر قواتها النووية حتى قبل إطلاقها, خصوصاً بعد نجاح موسكو بتطوير صواريخ أسرع من الصوت التي ستصل في غضون دقائق وتدمر الصواريخ النووية الأمريكية التي عفا عنها الزمن”.
أيُّ تركةٍ يسعى بايدن لتوريثها للرئيس الأمريكي الجديد، الذي قد يواجه مشهداً نووياً, ترتفع فيه احتمالية استخدام الأسلحة النووية, وهل يحاول بايدن في أيامه الرئاسية المتبقية, فرض الحرب النووية على بلاده وعلى الرئيس الجديد, تلك الحرب التي تجنبها بايدن نفسه على مدى أربع سنوات لوجوده حاكم البيت الأبيض, ولماذا أصدر تعليماته السرية للبنتاغون بالإستعداد لحرب نووية ضد روسيا والصين وكوريا الشمالية, قبيل مغادرته السلطة, وترحيله المهمة المجنونة لمن سيخلفه, وهل يتوقعه رئيساً مهووساً دموياً قاتلاً على شاكلته, يبدو أن بايدن يحرص على “فوزه” في نهاية مسيرته السياسية وربما حياته الشخصية أيضاً على نسف لقب “جو – سليبي”, واستبداله بلقب “جو– نووي” كي يدخل التاريخ من بوابة إشعاله فتيل الحرب النووية وهو “البطل الأمريكي” الحاضر وربما الغائب.
م. ميشيل كلاغاصي // كاتب وباحث استراتيجي
6/9/2024