لطالما كانت الأنسجة الحيوية عقبة أمام العلماء لفحص الأعضاء الداخلية للجسم بشكل مباشر، ورغم أن تقنيات مثل التصوير المقطعي المحوسب والأشعة السينية والتصوير بالرنين المغناطيسي قد توفر بيانات مهمة عن التركيبة الداخلية للجسم، فإن الصور نادرا ما تكون واضحة تماما وقد تأتي مع آثار جانبية مثل التعرض للإشعاع.
لكن اكتشافا جديدا قد يغير هذا الوضع بشكل جذري، حيث تمكن فريق من الباحثين من تطوير تقنية مبتكرة تجعل الجلد والعضلات شفافة بشكل آمن ومؤقت، مما يسمح برؤية الأعضاء الداخلية بوضوح.
ويعد هذا الإنجاز، المسجل في دراسة منشورة في دورية “ساينس” في 6 سبتمبر/أيلول، خطوة مهمة نحو تحسين التشخيص الطبي وفهم الأمراض المعقدة مثل السرطان وأمراض الجهاز الهضمي.
التقنية الجديدة تعتمد على استخدام صبغة طعام شائعة تعرف باسم التارترازين، وهي نفس الصبغة المستخدمة في العديد من المنتجات الغذائية. الغريب في هذا الابتكار هو بساطته، حيث يتم وضع الصبغة موضعيًا على الجلد لجعل الأنسجة المحيطة شفافة.
كيف يعمل التارترازين؟
يقول زيهاو أوو، الباحث في قسم علوم وهندسة المواد، في جامعة تكساس دالاس الأميركية، والباحث الرئيسي في الدراسة، في تصريحات خاصة لـه”الأنسجة البيولوجية عبارة عن خليط معقد من الماء والدهون والبروتينات، وكل منها لديه معامل انكسار مختلف، مما يؤدي إلى تشتت الضوء وعدم قدرته على النفاذ بعمق داخل الأنسجة”. هذا هو السبب الذي يجعل الأنسجة تبدو حاجزا منيعا للعين المجردة.
ومعامل الانكسار هو التشتت الذي يواجه شعاع الضوء حينما يمر من وسط إلى آخر، فانتقال الضوء إلى الزجاج أو الماء أو الهواء الساخن مثلا يغير من اتجاهه ويشتته، ولكل مادة أو نسيج معامل انكسار مختلف.
ولأن التشتت هو العقبة الرئيسية التي تمنع الضوء من الوصول إلى الأعضاء الداخلية، كان الهدف الرئيسي للباحثين هو تقليل هذا التشتت عن طريق جعل معامل الانكسار في الأنسجة أكثر تجانسا، وهنا يأتي دور صبغة التارترازين. عند امتصاص هذه الصبغة في الأنسجة، تتطابق جزيئات الصبغة مع معامل الانكسار الخاص بالدهون والبروتينات في الجلد، مما يقلل بشكل كبير من تشتت الضوء ويجعل الأنسجة شفافة.
تم اختبار هذه التقنية أولا على شرائح رقيقة من لحم الدجاج، حيث أظهرت الصبغة فعالية في جعل الأنسجة شفافة عند وصولها للتركيزات إلى المستوى المطلوب. ثم تم استخدام التقنية على الحيوانات الحية، حيث قام الباحثون بوضع محلول من المادة على فروة رأس الفئران، مما سمح برؤية الأوعية الدموية وهي تعبر الدماغ بوضوح. في تجربة أخرى، تم تطبيق المحلول على البطن، ليشهد الباحثون حركة الأمعاء وانقباضات القلب بأعينهم دون أجهزة.
مزيد من التطبيقات الممكنة
وما يجعل هذا الاكتشاف مثيرا هو تعدد تطبيقاته المحتملة، يوضح أوو في تصريحه لـ”الجزيرة نت”: “في دراستنا، أظهرنا أنه يمكننا تصور حركة الأعضاء الداخلية وتدفق الدم في الأوعية الدموية وحتى فحص العضلات بدقة متناهية”.
ويضيف الباحث أنه بهذا، فإن القدرة على فحص الأنسجة بدقة على مستوى الميكرون (جزء من المليون من المتر) تجعل هذه التقنية أداة قوية للمجهر المتقدم والتشخيص الطبي. وبالإضافة إلى التطبيقات الطبية المباشرة، مثل تسهيل عمليات سحب الدم أو المساعدة في تحديد الأورام في مراحلها المبكرة، قد تُستخدم التقنية في تحسين التقنيات القائمة على الليزر لعلاج السرطان، حيث تسمح بزيادة نفاذية الضوء إلى عمق الأنسجة، إذ يلعب الضوء دورا محوريا في العديد من العلاجات الطبية.
علاوة على ذلك، تعتبر التقنية غير جراحية وآمنة تماما. حيث تمتص الأنسجة الصبغة بشكل طبيعي وتخرجها من جسم الكائنات الحية في غضون 48 ساعة دون آثار جانبية طويلة الأمد، وفقًا للتجارب التي أجريت على الحيوانات. وبذلك، يمكن استخدام هذه التقنية لمراقبة التغيرات الحيوية المزمنة مثل تطور السرطانات أو تطور الأمراض العصبية على فترات طويلة من الزمن.
مزيج من الفيزياء والطب
تعتمد التقنية على مفاهيم قديمة في الفيزياء البصرية، حيث تم استخدام علاقات كرامر-كرونيج مع قوانين أخرى لتوقع كيفية تأثير الصبغات على مرور الضوء عبر الأنسجة. لم تستخدم تلك المفاهيم من قبل في الطب بهذه الطريقة، لكنها أثبتت فعاليتها في تحسين مرور الضوء عبر الأنسجة.
يشرح أوو: “تربط علاقات كرامر-كرونيج بين امتصاص المحلول ومعامل الانكسار. من خلال إدخال جزيئات ماصة بقوة في الوسط المائي، يزداد معامل الانكسار للمحلول عند أطوال موجية معينة للضوء وتقل اختلافات معامل الانكسار في الأنسجة البيولوجية بقوة. ومن خلال تقليل التشتت في الأنسجة، يمكن للضوء أن ينتشر بشكل أعمق في الأنسجة لتصوير السمات التي لم نتمكن من فحصها من قبل”.
وعلى الرغم من أن التقنية قد حققت نجاحا ملحوظا في الفحوصات الحيوانية، فإنها لم تُختبر بعد على البشر. ولذلك، فإن التحدي الأكبر الآن يكمن في التأكد من سلامة استخدامها على الأنسجة البشرية. يشير الباحثون إلى أن العمل جارٍ على تحقيق ذلك، ويتوقعون أن هذه التقنية قد تفتح أبوابا جديدة في مجال التشخيص الطبي غير الجراحي.