المبحث الثاني
ظاهرة القناع و الرمز التاريخي:
في النقد الأدبي الحديث اُستعمل لفظ (القناع) للدلالة على شخصية المتكلم أو شخصية الراوي في العمل الأدبي، ويكون غالباً هو المؤلف نفسه حيث يتكلم من خلال أثره الأدبي و الأساس النفسي لهذا المفهوم.
والمؤلف يفعل ذلك عن طريق شخصية مختلفة ليست سوى مظهر من مظاهر شخصيته الكاملة، و يتجلى ذلك في ضمير المتكلم ومثال ذلك في الرواية أو القصيدة أن تعادل أنا الراوي أنا المؤلف الحقيقي
و أكثر ما تميّزت المسرحيات الإنكليزية بالفخامة حين دخلت على يد (بن جونسون) و اصطبغت بلونٍ أدبي أكثر روعة و خاصةً في مسرحيته (قناع السواد) ١٦٠٥م.
و اعتبرها جونسون عملاً أدبياً ألفه وفق قواعد الوحدة الدراميّة صابغاً آراؤه في هذا الصدد بصبغةٍ أفلاطونية حديثة. ١
وقد فطن الشّاعر الغربي إلى المسرح الدارمي و إلى شخصية القناع فيه؛ فأراد أن يتخلص من النزعة الرومانسية و أن يوسعَ آفاق القصيدة فأجتلب شخصية القناع من المسرح الدارمي و استخدمها في القصيدة الحداثية متخفياً خلف الشخصية التي يكتب قصيدته عنها على ألّا تتطابق شخصية المؤلف _الشّاعر_ مع شخصية القناع، و شرط أن تكون شخصية المؤلف أقوى و أعمق و أشكل من شخصية القناع الأصلي التي استخدمها للتعبير عن تجربته بحيث يسحبها على الواقع المعاصر و يعالج من خلالها ما يطرحه من أفكار و أحلام و رؤىّ و أول من كتب في هذا النوع من الشّعر المُقنع أو القصائد المُقنعة هو الشّاعر (عزرا ياوند) و بعده الايرلندي ( وليم بتلر بيتس) ومنح القصيدة الحديثة روحاً دارمياً و مضموناً عميقاً.
وقد تأثر الشّاعر العربي بهذا الأسلوب الجديد المأخوذ من المسرح الدارمي وتوسّع في استخدامه و استغله ليطلَ له ومن خلاله على هذا العالم شاهداً على عصره.
وعلى القضية التي يروم طرحها دون أن يتطابق صوته مع صوت شخصية القناع المجتلبة (و أعني بصوته شخصية القناع الذي يتخفى خلفه الشّاعر الحديث).
و أيّ استقراء موضوعي يبرهن إنَّ الشّاعرَ العربيّ الخمسيني هو أوّلُ من استخدم تقنية القناع وعمقها و أعطاها زخمها الفنيّ و الحضاريّ، من خلال الغوص إلى أعماق التاريخ والتراث و الأساطير و الرموز فتُخفى خلف أقنعةٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ وعظيمة ليعبرَ عن رؤاه الواسعة بحسٍّ شمولي و بنبرة إنسانيّة جديدة و حديثة.
و أبرز الشّعراء الذين كتبوا بأسلوب قصيدة القناع و نجحوا في التعبير بواسطتها عن تجاربهم هم الشعراء:
(بدر شاكر السيّاب و عبد الوهاب البياتي وخليل حاوي وعلي أحمد سعيد (أدونيس) ) وقد عبروا من خلال نماذجهم القناعيّة عن النموذج الأمثل باتجاه الوصول إلى نموذج الأمة؛ لذلك جاء هذا النوع من الشعر مُحملاً بعناصر الدهشة و الانبهار و الغموض الشفيف و الأسطوري العميق المُؤلف عن عصور النور و بذور الحضارة و جذورها و لكلّ شاعرٍ منهم طريقته التي جسدت شخصيته و عبرت عن أفكاره و رؤاه.
و يُعدُّ( خليل حاوي) من أبرز الشعراء المبدعين في كتابة قصيدة القناع، واختلف عمن قبله بأن أضفى على قصيدة القناع سمةً فلسفيةً وعقلانية و منحها زخماً ملحمياً من خلال رؤاه القومية وتعبيره عن موت الحضارة و انبعاثها.
مثلاً استعار شخصية سندباد الممثل في المغامرة والارتياد لبعض الملامح التراثية إذ قال؛
رحلاتي السبع ما كنزته
من نعمة الرحمن والتجارة
يوم صرعتِ الغول الشيطان
و لاحَ الشّقُ في المغارة ٢
فشخصية سندباد تحمل طاقاتٍ إيحائية ضخمة وهو من أبرز الشخصيات التي رافقت الشاعر طيلة مراحل تطوره الشعريّ.
وقد لجأ الشّعراء للمدينة المقدسة لبث لواعج المحبة و الحنين يقول نزار قباني؛
ركعت حتى ملّني الركوع
سألتُ عن محمّدٍ فيكِ وعن يسوع
يا قدسُ يا مدينةً تفوح أنبياء
يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء ٣
فقد أتكأ الشاعر على القدس كرمز تاريخي و ديني بهدف التأكيد على عروبة و كنعانيّة القدس في مواجهة محاولات التهويد، فهو شعرٌ موجهٌ يحملُ رسالةَ المقاومة فضلاً عما يبعثه توظيف القدس من تناقضات الواقع و انكساراته.
و سآتي لاحقاً على دوافع الرمز و انماط القناع في منشور آخر
…………………………..
١.؛السليماوي أحمد ياسين (دكتور) تقنية القناع الشعري
جامعة عمان ١٩٨٥م.ص ١٥.
٢.حاوي، خليل، الديوان نهر الرماد، ص ٢٢١.
٣.قباني نزار، الأعمال الكاملة، ص ١٨٢.