*امام هذا المفصل التاريخي الذي تعيشه الامة الشيعية، يكتب ناجي امهز بعض الاسرار التي حافظ عليها طيلة ٣٤ سنة*
*تفاصيل تاريخية سياسية عن الموارنة نحو الشيعة، بقلم ناجي أمّهز*
“الجزء الاول”
المقدمة:
أكتب هذا المقال في هذه الحقبة المفصلية التي تمر بها الطائفة الشيعية، وفي ظل متغيرات قد تفرض الكثير من المعادلات، للتذكير بحقبة مرت والتعلم منها، أو على الأقل الاطلاع عليها.
السرد في هذا المقال وإن كان يمتد إلى ثلاثة أجزاء، لكن لأتحدث عن ما سمعته من شخصيات مارونية حول الطائفة الشيعية. ومن يعرف جزءًا مما سأكتبه حتمًا يعرف بقية القصة، لكن لكل شيء أوان.
كما أن الغاية من هذه السلسلة من المقالات هي إظهار الجانب التاريخي لحقبة ربما لن يذكرها أحد، كما توضح كم دفع الشيعة من أثمان بسبب الوحدة مع سوريا واتجاه القضية الفلسطينية.
كما أنها محاولة من أجل الحض على الوحدة الشيعية المسيحية، وخاصة المارونية.
لأنه مهما كانت قوة الطائفة الشيعية، تبقى بحاجة إلى العمق الماروني في مراكز صناعة القرار العالمي، حيث من المحرم على الشيعة الوصول إليها.
كما أنه مهما تعاظم الدور الماروني في السياسة على مستوى العالم، يبقى الشيعة هم الحلفاء الأصليون للموارنة على مر التاريخ.
في 16-7-2017، وفي تصريح صحفي لدولة الرئيس اللواء عصام أبو جمرة، ذكر اسمي بين بعض الأسماء المسيحية التي كانت ناشطة جدًا في السياسة والدفاع عن السيادة والوحدة الوطنية منذ عام 1989.
(اللواء عصام أبو جمرة: نائب رئيس مجلس الوزراء في الحكومة العسكرية ووزير على ست وزارات 1988-1990، ونائب رئيس مجلس الوزراء 2008-2009).
نحن عشنا في بيت لم يعرف الانقسام المذهبي أو الطائفي، وقد ألفت عيوني هيئة المطارنة والرهبان منذ الصغر، وكانت والدتي تخبرني أن المطران صفير هو من فسر لها حلمها عندما حلمت بالقديسة برناديت بأن تنذر لها وستُرزق بمولود، وبالفعل نذرت أمي للقديسة برناديت وولدت برناديت بعد أن كانت والدتي محرومة من الأطفال حيث لم يعش أي مولود على رأسها.
لذلك، وفي الكثير من المناسبات، أو عندما كنت أشعر بالخوف من ملاحقة السوريين وحلفائهم لي، كنت أحرص على زيارة بكركي أو حتى الكنائس والأديرة واللقاء مع بعض الآباء والرهبان. وكان لي مكانة خاصة كوني من القلائل جدًا من الطائفة الشيعية التي عاشت السياسة المارونية بأدق تفاصيلها، وفي كافة مراحلها منذ عام 1989 وحتى يومنا هذا، وكان آخر لقاء مع غبطته عام 2009 بعد الانتخابات النيابية.
المقال:
منذ عام 1990، بعد سقوط قصر الشعب، توقفت عن أي نشاط سياسي وانتقلت للعيش في طرابلس (العيرونية)، حيث لا أحد يعرف شيئًا عن نشاطي العوني، لأنني بحال عدت إلى جبيل، كان الكثير يعلم أنني التحقت بالحالة العونية.
في الشمال، عملت في مجال الرسم والخط وتصميم المطبوعات الورقية. وفي يوم من الأيام، كنت أخط في مجدليا إعلانًا لمؤسسة، وقد أعجب صاحب المؤسسة بما أنتجته من عمل إعلاني. فما كان منه إلا أن ساعدني في الحصول على عمل عند شخص اسمه سمير كعوي، الذي كان يعمل في الإعلانات. كنت أصمم الإعلانات وأقوم بالخط والرسم على اللوحات الخشبية.
تعرفت على الكثير من الشخصيات في زغرتا، منهم الأستاذ سمير فرنجية، الذي زارني في بيتي بالعيرونية. أهديته ثلاثة كتب قيمة ونادرة، وفوجئ بوجود شيعي في هذه المنطقة القريبة من مجدليا. أخبرني عن صداقاته مع شخصيات شيعية، وأبدى إعجابه الكبير بآية الله العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين. كما اعجب بخبرتي في تصميم الشعارات واغلفة الكتب مع دمجها بالرموز مما يمنح التصميم ابعادا مختلفة تشير الى مكانة الكاتب او المفكر وغايته من نتاجه ان كان ادبيا او سياسيا، وكنت على وشك تصميم بعض أغلفة الكتب له.
عام 1993 غادرت طرابلس متجها الى بيروت قبل اعتقالي بدقائق من قبل السوريين حيث مررت بقرب قوتهم العسكرية المتوجهة لاعتقالي بسبب كتابة شعارات سياسية على الجدران في منطقة الزاهرية.
في عام 1995، استعدت حريتي بعد أن توقف السوريون عن ملاحقتي، عقب اعتقالي في “البوريفاج” في عام 1994، ثم الإفراج عني بتدخل من رجل فاضل.
من نفس العام، بدأت أشعر بنوع من الحرية، خاصة بعد أن انتسبت إلى “جبهة الشعب اللبناني” التي كان يرأسها المهندس جوزيف حداد. طلب مني الانتساب بسبب نشاطي العوني السابق، الذي سعت القيادة السورية للحد منه. كما طلب من الكثير من العونيين ذلك من أجل حمايتهم وتخفيف الضغوط والملاحقات السورية عنهم. نجح المهندس حداد في تلك الفترة في تخفيف الضغط، وتم تعييني منسقًا للضاحية الجنوبية.
لكن في تلك الفترة، كان العمل السياسي اللبناني شبه معدوم، لأسباب كثيرة، أبرزها أن الكلمة الأولى والأخيرة في لبنان كانت تأتي من سوريا.
في عام 1997، دعيت من قبل شخصية رئيسية في “الرابطة المارونية”، كان يربطني بها صداقة. طلب مني التحدث عن الرمزية اللبنانية في أحد الصالونات السياسية. كان هذا الشخص نابغة سياسية، يعمل على إنشاء جبهة وطنية لبنانية. تحدثنا طويلًا، وكانت النتيجة أنه رأى أن لبنان لن يكون قادرًا على الاستمرار بحال توقف الحراك السياسي، حتى لمكون واحد من مكوناته. وأكد على ضرورة استمرار الحراك السياسي كي لا يموت دور لبنان التاريخي والمستقبلي.
وأضاف أن الحراك السياسي لن يكون منتجًا وفاعلًا إلا إذا حصل اندماج وطني يشمل كافة الطوائف، حتى لو كان رمزيًا. طلب مني الانضمام إليهم، لكنني اعتذرت وقلت له: “الحياة بين الطبقة الأرستقراطية مكلفة جدًا بالنسبة لي”.
وهذا الكلام نفسه سمعته عام 2000 من أحد السفراء اللبنانيين الذي كان يعمل على انتقال لبنان من دولة المذاهب إلى دولة المواهب، وتمنى أن ينخرط الشيعة في حراك سياسي مرن في ظل الاصطفافات الحادة، خاصة أنه لم يكن يوجد أي حراك سياسي شيعي منذ عام 1980.
“منذ عام 1992 كانت الكنيسة هي التي تمثل الموارنة في السياسة والمجتمع، خاصة منذ عام 1994 بعد هجرة النخبة المسيحية السياسية والاقتصادية وحل حزب القوات واعتقال الدكتور جعجع”.
عام 2001، بعد التحرير بأشهر قليلة، زرت بكركي ((لمعرفة ماذا نفعل نحن الذين كنا نناهض الوصاية السورية، وبحال اعتقلنا هل هناك من يطالب بنا، حيث ظهرت في تلك الحقبة موجة اعتقالات مرعبة ليس لها حدود)). حينها، فهمت أن أزمة انتقال الحكم في سوريا بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد بدأت ترمي بتداعياتها على لبنان، وتحديدًا على الطائفة المارونية والمعارضين للسياسة السورية، كونها في خصومة شديدة مع النظام في سوريا. إضافة إلى أن الموارنة كانوا قد رفضوا المشاركة في العملية السياسية كما كانت سوريا تريدها، وأعلنوا مقاطعة الانتخابات النيابية منذ عام 1992، أو حتى تسمية الوزراء أو الموظفين من الدرجة الأولى. وأيضًا كان غالبية الرأسماليين اللبنانيين قد غادروا لبنان، حيث إن زمن الوصاية السورية كانت كافة التلزيمات في الدولة والاحتكارات التجارية تتم لصالح المقربين من سوريا.
كما أن التحرير عام 2000 وانهيار جيش لبنان الجنوبي أشعر الموارنة أنهم خسروا أحد أهم أوراق قوتهم السياسية الدولية، حيث كان جيش لبنان الجنوبي يعمل دائمًا على الضغط على قيادة الكيان الإسرائيلي، التي كانت بدورها تضغط على اللوبي الصهيوني في أمريكا، وكان اللوبي الصهيوني يضغط على الإدارة الأمريكية، والإدارة الأمريكية تضغط على القيادة السورية. وهكذا، كان يحصل نوع من التوازن السياسي بين الرئيس الأسد، الذي كان يحكم لبنان وسوريا بقبضة فولاذية، وبين الموارنة الذين ترك لهم هامش ضئيل للغاية.
إلا أن الكنيسة المارونية لم تعترض أو تظهر انزعاجها من التحرير عام 2000، بل اعتبرته إنجازًا وطنيًا وتطبيقًا للقرارات الدولية، خاصة أن المقاومة الإسلامية نجحت من خلال عدم ممارسة أي عنف أو ردة فعل على المتعاونين مع الكيان الإسرائيلي، وترك الأمر للقضاء اللبناني، نوعًا من البشائر الوطنية التي يمكن البناء عليها.
ولكن في تلك الحقبة، أي عام 2000، طُرح سؤال من قبل النخبة المارونية حول الدور الشيعي القادم، خاصة أن عام 2000 يُعتبر هو الخطوة الأولى في مسيرة الشيعة السياسية الحديثة.
قبل عام 2000، وفي ظل حكم الرئيس حافظ الأسد، كان الشيعة مغيبين سياسيًا ودورهم محصورًا فقط بأمور داخلية معيشية، حيث كان دور المقاومة محصورًا بالقتال ضد إسرائيل بعيدًا عن السياسة. بينما دور الرئيس بري، رغم دهائه وحنكته ووجود الرئيس رفيق الحريري إلى جانبه ودعمه من قبل وليد جنبلاط، إلا أنه كان قد أعلن مبايعة الرئيس حافظ الأسد منذ عقد ونيف. وفي 2-5-1999، ألقى الرئيس نبيه بري خطابًا في مهرجان تجديد البيعة بالولاية الخامسة للقائد حافظ الأسد في الأونيسكو ـ بيروت.
لذلك، بعد التحرير ووفاة الرئيس الأسد وبروز نجم سماحة السيد نصرالله، كان الموارنة يتساءلون: أين سيكون حزب الله؟ وما هو الدور الشيعي القادم؟ وهل سيكون إلى جانب الموارنة في استعادة دور لبنان الكبير؟
وفي تلك الحقبة، لم يكن هناك أي جواب على أسئلة الموارنة، حيث كان الجميع، بما فيهم المسيحيون من حلفاء سوريا، يتجنبون الاعتراض أو الخروج عن السياسة السورية.
وأمام هذا السؤال عن الدور الشيعي، حاولت أن ألفت أنظار من كنت ألتقيهم من الشيعة إلى أنه ربما يكون هناك حراك سياسي باتجاه الموارنة أو الإجابة بطريقة غير مباشرة على هذه الأسئلة والهواجس.
وكان أكثر ما يؤلم الموارنة أنه منذ عام 1990 حتى عام 2002 لم يكن هناك أي دور للدولة اللبنانية، بل كانت الوفود الدولية تناقش الحكومة السورية حتى بالمواضيع الداخلية اللبنانية، وما يتم الاتفاق عليه بدمشق يُنفذ في بيروت.
رغم مرور أكثر من عامين على التحرير، إلا أنه لم يظهر أي حراك سياسي شيعي اتجاه الموارنة الذين كانوا يرددون أنه ربما بسبب انشغال الشيعة بالانتصار والتحرير والعودة إلى الجنوب مع ما رافقها من نهضة عمرانية امتدت من الضاحية إلى الجنوب، وتكريس قوة سياسية داخلية تتناسب مع حجم المتغير الذي حصل في الجغرافيا والمجتمع.
أمام حالة الجمود بين الشيعة والموارنة، قمت بمبادرة فردية ربما تُحرك المياه الراكدة، حيث رفعت مناشدة إلى منظمة العفو الدولية، التي أنا عضو فيها، أطالب بالإفراج عن الدكتور جعجع، واعترضت على آلية سجنه وحرمانه من حقوقه المدنية وآلية توقيفه التعسفية. وقد اعتمدت هذه المناشدة عام 2002 من قبل منظمة العفو الدولية. وعندما سُئلت عن سبب هذا العمل الذي يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة عليّ، قلت: “المهم هو الحفاظ على التعايش الشيعي الماروني”.
عام 2003، أُرسلت خلفي شخصية كنسية كبيرة ما زالت على قيد الحياة، وهذه الشخصية الكنسية هي من أحرص الشخصيات على الشيعة، بل بذلت جهودًا مضنية وقامت بعمل دؤوب طيلة عقود طويلة من أجل الحفاظ على إرث التعايش بين الموارنة والشيعة، كونها تنطلق من ثوابت تاريخية تؤكد أنه لا شيعة من دون الموارنة ولا موارنة من دون الشيعة في لبنان.
وقد فهمت من حديث الشخصية الكنسية أنه حاول أن يلبنن الفكرة السياسية عند الشيعة وقام بمجهود كبير، بل شارك في عدة مؤتمرات، ومنها عربية ودولية، من أجل التمهيد وشق الطريق للمقاومة وتثبيت صورتها وتأييد نضالها وطمأنتها بأن الكنيسة لن تكون إلا معها. وقد وقع على وثيقة تحمل أدبيات المقاومة في تحرير فلسطين وحق المقاومة بل ومقاومة الإرهاب الإسرائيلي، وكان ينتظر أن يكون هناك شيء يُقابل هذا الفعل أو ما يشبهه من قبل الشيعة ومحاولة العمل على تبني بعض مواقف الكنيسة المارونية المتعلقة بالسيادة اللبنانية، بعيدًا عن وحدة المسار والمصير مع سوريا، كونه لا يوجد بين الدول والشعوب وحدة مسار ومصير، بل يوجد تعاون صادق وفاعل ومتوازن بحركة المصالح بين الدول من أجل نهضة الشعب. لكنه قال: “يبدو أن الأولوية الشيعية بمكان آخر ولها رؤية جديدة على لبنان التاريخي”. وكأنه منذ تلك الحقبة قرأ أن الشيعة يريدون للبنان أن يتجه شرقًا، في وقت أصبحت غالبية الدول العربية تتبع التوجه اللبناني غربًا.
وعدد وقتها أنه حتى مصر اتجهت غربًا إضافة إلى مجلس التعاون الخليجي والأردن. هل يُعقل أن يكون لبنان الفاعل والمؤثر في الغرب منذ عقود طويلة يتجه شرقًا؟ ومن قادر أصلًا على دفع فاتورة الانتقال ببلد ومصالحه وعلاقاته واتفاقياته من الغرب إلى الشرق؟ وما هو هذا الشرق وخياراته التي يجب التوجه إليها؟ وإذا كان التوجه شرقًا من أجل تحرير فلسطين سياسيًا، فإن المفاوضات تحصل مع الغرب. وإن تحرير فلسطين عسكريًا، فإن الذي لم يحصل طيلة ستة عقود لن يكون من السهل حصوله ولو تهدم المشرق العربي.
وكان الموارنة تصلهم قراءات دولية ومن مغتربين لبنانيين تُظهر أن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان ربما هو مقدمة لنزع سلاح حزب الله، كون علة بقائه قد انتفت بخروج الإسرائيلي، خاصة أن الحديث عن نزع سلاح حزب الله بدأ يأخذ أبعادًا دولية مُعلنة، تجلت في قانون محاسبة سوريا الذي صوت عليه الكونغرس الأمريكي عام 2003.
“كما كان الموارنة يؤكدون أن قانون محاسبة سوريا ليس سببه الموارنة فقط، بل سببه موقف الرئيس بري الذي رفض استقبال “باول” في مقر المجلس النيابي. وأن الشيعة يدخلون أنفسهم في صراع مباشر مع الولايات المتحدة وحتى الداخل اللبناني؛ فالمجلس النيابي يمثل الجميع، وليس فقط الطائفة الشيعية. وحتى لو فُهم أن ما قام به الرئيس بري هو بضغط من سوريا، فهذا يعني أن سوريا قادرة على ضبط السلاح الشيعي والموقف السياسي الشيعي، مما يمنحها تفويضًا جديدًا في الوصاية على لبنان. والكنيسة مهتمة برفع الوصاية السورية عن لبنان.
لذلك كان الموارنة في تلك الحقبة يسعون جاهدين لإيجاد أي آلية تُقدَّم على أنها بداية للحلول، على أن تكون داخلية بين اللبنانيين أنفسهم، حتى بعيدًا عن التوازن في المحاصصة، “بالزايد بالناقص”، المهم أن يحصل نوع من الحراك السياسي الداخلي، وعدم منح الذرائع التي تسمح ببقاء الوصاية السورية على لبنان.
وكنت أفهم من حديث بعض الساسة الموارنة، أن الشيعة أمام فرصة تاريخية لإنشاء دور سياسي فاعل ومستقر، بل يمكنهم تحقيق مكاسب كبيرة في السياسة والاقتصاد؛ فالدول مستعدة للوصول مع الشيعة إلى أي اتفاق وبأي ثمن سياسي يريدونه، بل وإشراكهم في نشاط إقليمي فاعل يؤسس لعدالة الأقليات في منطقة الشرق الأوسط. ومن وجهة نظر الموارنة، كانت كل الأسباب متاحة ومتوفرة للشيعة بعد أن تحولوا إلى رواد التحرر بعد التحرير عام 2000 وانسحاب إسرائيل. والعالم العربي والإسلامي سيتقبل هذا الحراك دون اعتراض يُذكر، كما هو معتاد على مر التاريخ؛ كون شعبية الطائفة الشيعية في أوج حضورها على مستوى العالم العربي والإسلامي. وهذا الانتصار وهذا الحراك سيعيد بناء لبنان القادر القوي، ويعود لبنان سويسرا الشرق، خاصة أنه بدأ الشرق الأوسط يتغير بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد وسقوط صدام حسين ووصول الأمريكي إلى الحدود السورية.
وأيضًا حاولت لفت نظر الشيعة إلى مثل هذه القراءات، على الأقل من أجل النقاش فيها، ولو على سبيل التباحث. لكن من المهم أن يكون هناك نوع من الحراك والتفاعل معها، بعيدًا عن كونها مقبولة أو غير مقبولة. لكن يبدو أن صوتي لم يصل أو ربما لم أنجح بإقناع أبناء أمتي؛ بسبب أن مفرداتي وأدبياتي السياسية غريبة على المجتمع الشيعي.
مع نهاية عام 2004 صدر القرار 1559، وبدأت تصل الرسائل التي تتحدث عن عودة الجنرال عون، وأن هناك شخصية مسيحية مقبولة من الجميع، بما فيهم سوريا، تعمل على ترتيب هذه العودة. وهنا قلت: لننتظر ربما يحدث ما كنت أبحث عنه. المهم هو التواصل والحوار وتقريب وجهات النظر بين الجميع. والتيار الوطني الحر هو تيار علماني، وحتماً سينجح في جمع الطوائف تحت راية وفكرة واحدة تؤسس لعودة لبنان.
أيضًا، رغم ما كان يصل إلى مسامعي عن جدية وتداعيات القرار 1559 على لبنان عامة وعلى الشيعة بصورة خاصة في حال عدم تطبيقه، مما يدعو إلى تحرك وطني جامع، إلا أنه لم يحصل شيء من هذا القبيل.
بل أدى صدور القرار 1559 إلى إبراز الانقسام بين مكونات المجتمع اللبناني، وبدأ حراك سياسي نشط وكبير وفاعل جدًا من قبل القوى المناهضة لسوريا.
فما كان مني إلا أن التقيت مع النابغة السياسية سمير فرنجية. وكنت أعرف أن وجود مثل هذه القامة الوطنية والفكرية سينتج توازنًا وطنيًا كبيرًا يلحظ النشوء الجديد للسياسة الشيعية. أو على الأقل سيكون هناك نوع من التوازن في الخطاب والمنحى، فالمطلوب هو قيامة لبنان، لا يوم القيامة على لبنان.
لكن تسارع الأحداث كان أكبر بكثير من حراك أمثالي، وإن كنا فواصل بين مصطلحات كونية.
في 14 شباط 2005 اغتيل الرئيس رفيق الحريري، ومعه اغتيل لبنان، كل لبنان، بكل طوائفه ومعالمه، بل وتاريخه ومستقبله. اغتيل الحلم والأمن والأمان. لقد أدخل لبنان في المجهول، وهذا المجهول مستمر إلى يومنا هذا.
لكن كان كل شيء يتغير. اصطفافات طائفية حادة، وانقسام في سابقة مصيرية. فما كان مني إلا أن عدت بزخم وانطلقت مرة أخرى بحوار إسلامي-مسيحي بمحاولة، وإن كانت خجولة، بعد أن تغيرت الظروف واختلطت الأوراق. لكن كان هدفي أنه لو كنت بوزن شعرة، المهم أن يبقى هناك تواصل ماروني-شيعي طبيعي، كون علاقتي بالموارنة جدًا طبيعية وأصيلة ومبنية على تاريخ عميق تعرفه جيدًا النخب المسيحية، وتحديدًا المارونية التي تنشط سياسيًا.
3 ايار 2005 نشرت الديار وقبل عودة الجنرال باربعة ايام خبر تحت عنوان “الوطني الحر زار عمار ودكاش”، “قام وفد من هيئة ساحل المتن الجنوبي في التيار الوطني الحر بزيارة كل من النائبين الحاج علي عمار عضو كتلة الوفاء للمقاومة والدكتور بيار دكاش في دارتهما وذلك ضمن اطار الجولة التي تقوم بها على الفعاليات الحزبية وار والسياسية لتفعيل الاهتمام المشترك بقضايا المنطقة الاجتماعية والانمائية، وقد ضم الوفد 9 اشخاص ذكرت اسمائهم في الخبر ومنهم اسمي.
في 2005 عاد الجنرال عون من المنفى. ومع انطلاق الانتخابات النيابية توجهت للعمل من أجلها في مدينتي جبيل، وكانت نتائجها أن “تسونامي” حصدت أكثر من 72% من الأصوات المسيحية، إضافة إلى الآلاف من أصوات بقية الطوائف.
بعد انتهاء الانتخابات النيابية، انتُخبت مسؤول الإعلام في التيار الوطني الحر في منسقية المتن الجنوبي.
في 25 أيلول 2005 تعرضت الإعلامية مي الشدياق إلى محاولة اغتيال. فما كان مني إلا أن تضامنت معها في ساحة الشهداء، وشاركت أيضًا في الوقفة التضامنية في مبنى المؤسسة اللبنانية للإرسال “كفر ياسين.”
في 12 كانون الأول 2005 اغتيل الشهيد جبران تويني. وقد حزنت كثيرًا، خاصة أنني كنت أعرف ماذا يعني الشهيد جبران للمعلم الأستاذ غسان تويني. هو ليس فقط ابنًا، بل هو المستقبل. وكنت ألتقي بين أعوام 1989-1990 بالمعلم غسان تويني عندما كان يعقد اللقاء الأرثوذكسي، حيث كنت أحرص على مصافحته والحديث معه ولو لدقيقة واحدة. قد كان العملاق غسان تويني هو لبنان المكتوب.
“نهاية الجزء الاول”