عند طرح شعار فصل الدين عن الدولة، يحدث سوء فهم لدى البعض حيث يظنون اننا ندعو لسلخ الدين من حياتنا اليومية وتحويل الناس الى الكفر والانحلال الخلقي.وهذا الفهم ناتج عن خلط القارئ بين الدولة والمجتمع. انا اؤكد ان الدين – سواء كان سماويا او ارضيا- عنصر حيوي فاعل وشاحن اخلاقي ضروري لقيام اي مجتمع. والدراسات التاريخية تؤكد ان اولى المجتمعات الانسانية انما قامت حول المعابد. لمحة تاريخية حول علاقة الدين بالدولة الحاجات الاقتصادية دفعت الانسان الاول للعيش ضمن مجموعات تحكمها الزعامات التي كانت من نصيب الاقوى جسديا. هذه المجموعات اخذت بالاتحاد مع مجموعات اخرى على طريق تكوين مجتمع اكثر قوة وتماسكا، وهذا بدوره ادى الى الصراع بين الاقوياء للسيطرة على السلطة مما هدد الامن الداخلي واعاق عملية انتاج الخيرات. فنشات الحاجة لنوع جديد من القيادات تعتمد على الفكر بدلا من العضلات فبرز الحكماء الذين انتجوا تراثا اخلاقيا ( دين ارضي) يربط الجميع برباط روحي – اخلاقي فالانسان حتى يكون ذاتا اجتماعية لابد له من حزمة من الروابط الاخلاقية التي تنظم العلاقات بينه وبين الاخرين وتشجعه على العيش المشترك عبر توفير الخدمات لكل اعضاء الجماعة. وهذه القيم الاخلاقية تتحول مع الزمن لدى البعض الى عادات وتقاليد يعاب من لايطبقها، وبعض هذه العادات تتحول الى قوانين تلزم افراد الجماعة على تطبيقها. ونتيجة تطور الحياة الاقتصادية تنوعت الاطياف التي تتشكل منها المجتمعات عبر اندماجها ببعضها فتنوعت الاديان واختلفت العادات والتقاليد لدى مكونات المجتمع الجديد. وكان لابد من اطار عام يجمع تلك المكونات حول فكر مشترك يعمل كحافز للاستقرار الاجتماعي الذي لابد منه لاي تطور اقتصادي. ونظرا لغياب ثقافة الحوار آنذاك وعدم تبلور الفكر السياسي الذي يعمل على تقريب وجهات النظر وايجاد القواسم المشتركة بين جميع اطياف المجتمع، ظهر نظام القهر السلطوي وتبلورت اولى براعم نظام الدولة المركزية التي تشرف على ادارة المجتمع التي تزاوجت فيها القوة والفكر عبر تقاسم الملك ورجال الدين للسلطة. رجال الدين اعتبروا ان الملك هو ابن الله، والملك اعتبر ان رجال الدين هم الواسطة بين الله والشعب وبالتالي، اخضع رجال الدين الشعب لسلطة الملك فنشأ عن هذا نظام دولة لادارة المجتمع. اذا، الحاجات الاقتصادية بلورت نواة اولى الجماعات الانسانية، والحاجات الروحية انتجت الدين لتحويل الجماعات الى مجتمع متماسك لزيادة الخيرات، والمجتمع افرز الدولة لادارة امور مجتمع متنوع الاطياف وضمان امن الجميع. هذه المجتمعات البدائية اخذت تندمج ببعضها نتيجة الحروب او الكوارث الطبيعية او الهجرات. وللحفاظ على قوة الدولة كان لابد من الحفاظ على تماسك المجتمع لذا،فقد جرت العادة بان يفرض الملك المنتصر عبادة ربه على الاخرين غصبا مستخدما طريقة الاقصاء بحق المغلوبين واربابهم. المدونات التاريخية العائدة للالف الثالث قبل الميلاد ومابعده تخبرنا كيف كان الملك المنتصر يحطم تماثيل ارباب الشعوب المقهورة ويقتل كهنتهم ويهدم معابدهم وينصب بدلا عنه تماثيل رب المنتصر ويفرض على المغلوبين تقديم القرابين له وعبادته اي، كان هناك تدميرا ماديا واقصاءا فكريا للحفاظ على تماسك المجتمع واستمراره. وقد عبر الذاكرة الشعبية عن هذا الامر بالمقولة المعروفة: الناس على دين ملوكها. ولكن هذه الطريقة وان كانت ناجحة من الوهلة الاولى الا انها كانت تخفي بين طياتها عناصر انهيار الدولة لان الشعوب المقهورة التي اجبرت على الخضوع لالهة غريبة عنها كانت تنتهز فرصة ضعف الدولة للانقضاض على السلطة، وكانت عونا للاجنبي الذي يطمع بغزو هذه الدولة. وحتى يتفادى الحكام هذه المعضلة بدأوا بانتهاج خط جديد مع الشعوب المغلوبة وهو ابداء الاحترام لاربابهم المحلية وتقديم القرابين لها مما ساهم بتوطيد دعائم الامن الاجتماعي وكانت هذه التصرفات هي الخطوة الاولى نحو الاعتراف بالطرف الاخر وبزوغ براعم الفكر السياسي المرن لقيادة الدول بدلا من الفكر الديني المتزمت. فسمحت للناس بحرية العبادة وممارسة الطقوس الدينية مقابل الاخلاص للمجتمع والوفاء للدولة. اي، جرى الفصل بين الدين والدولة، ولكن لم يفصل بين الدين والمجتمع. واول من فصل بين الدين والدولة هو النبي عيسى عليه السلام. جاء في الانجيل: ((ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْماً مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلا تُبَالِي بِأَحَدٍ ، لِأَنَّكَ لا تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ الله. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لا ؟ نُعْطِي أَمْ لا نُعْطِي ؟ فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ ، وَقَالَ لَهُمْ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي ؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لانْظُرَهُ . فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ : لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ ؟ فَقَالُوا لَهُ: قَيْصَرَ.. فَأَجَابَ يَسُوعُ : أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لله لله). إنجيل مرقس 12:13-17 وقول المسيح اعطوا مالقيصر لقيصر وما لله لله هو قمة الفصل بين السياسة والدين. نستنتج مما سبق ان الدعوة لاقامة دولة اسلامية – طائفية هي عملية قفز نكوصية بعكس اتجاه التاريخ خمسة الاف سنة الى الوراء. واظن ان تلك الفئة من القراء الذين انتقدوني على مقالاتي التي نشرتها حول هذا الموضوع تخلط بين الدولة والمجتمع، نحن نطالب بفصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع، الدولة هي نظام سياسي- اقتصادي الهدف الاسمى له هو تامين حاجات الناس اليومية الدنيوية بغض النظر عن كفرهم وايمانهم. اما الدين فهو نظام اخلاقي – تعبدي الهدف الاسمى له هو ايصال المؤمنين به الى الجنة. الدولة تقدم خدماتها للجميع ولها قوانين قهريه تلزم الكل بالخضوع لها، ولها اجهزة جبرية لتنفيذ القوانين بالاكراه، واجهزة قمعية لردع المخالفين. اما الدين، فهو يقدم خدماته للمؤمنين به، واوامره ونواهيه تخص المؤمنين به فقط وليس في الدين اجهزة قهرية لفرضه على الاخرين لان الدين بالاساس قائم على حرية الاختيار ( من شاء فليكفر ومن شاء فليؤمن)، وليس للدين اجهزة جبرية لاكراه الناس على قبول احكامه ( لااكراه في الدين)، وليس في الدين اجهزة قمعية للردع (وادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) وبالتالي ، فالدين غير صالح لقيادة الدولة، لان قوانين الدولة قاهرة وقوانين الدين اختيارية.فان وصل المتدينون لسدة الحكم، تحولت احكام الدين الى قوانين ملزمة فينتفي بذلك عنصر الاختيار في الدين وتتحول الطقوس والمناسك الدينية الى قوانين دنيوية يعاقب من يخالفها ويقهر من لايؤمن بها على اتباعها، فينتفي الثواب من فعلها، والجزاء على فعلها، وتنتفي الحاجة ليوم القيامة لان الحاكم قام بدور الله على الارض. الاسلام هو مجموعة من القيم الاخلاقية والاطر التنظيمية لبناء النفس وليس لبناء دولة، لتنظيم المجتمع وليس لتسيير دفة الحكم. وكل تعاليم الاسلام تحمل طابع الاختيار الحر دو اكراه. فاذا بنى كل منا نفسه اصبح المجتمع صالحا، واذا صلح المجتمع صلحت الدولة. لاوجود لدولة ناجحة في ظل مجتمع فاسد، ولاوجود لمجتمع صالح في ظل وجود افراد فاسدين. فليبدأ كل منا بنفسه ان اردنا اصلاح حال الدولة فالله تعالى قال: لايغير الله مابقوم حتى يغيروا ما بانفسهم. وبتعبير آخر، فالاسلام نظام تربية واصلاح ينطلق من القاعدة الى قمة الهرم وليس نظام حكم وقهر ينطلق من قمة الهرم باتجاه القواعد. اما بالنسبة للعبادات والطقوس فهي طرق واساليب للاتصال بين الفرد وخالقه وكل فرد حر باختيار الطريق الذي يراه مناسبا له. الانسان يولد في هذه الحياة فردا، ولكنه يعيش فيها جماعة. ثم يموت ويدفن فردا، ويبعث فردا، ويحاسب فردا. فتعالوا نتفق على طريقة العيش ضمن الجماعة ونترك ماتبقى للانسان الفرد لتقرير مصيره.