سرى نبأ وفاة معلم الصف كالنار في الهشيم ، عندما نعاه ناعٍ ، فاجتمعتُ وعدد من أقراني ، من اجل وداعه وإلقاء النظرة الأخيرة عليه وهو مسجى ببذلته السوداء وقميصه الأبيض ، تعلوه ربطة عنق حمراء كالدم ، وحبة الجوز ما زالت تنفص بين عينيه ؛ ثم عدنا أدراجنا بعد موارته في بطن الثرى .
كانت علائم الحزن بادية على وجوه الجميع ، ولم أتوقف وأقراني عن الإبتهال لله تعالى في الدعاء له ، ونحن نستذكر الحكمة القائلة : ( من علمني حرفاً كنت له عبداً ) ، فازداد توسلنا المصحوب بالرجاء إلى العلي القدير أن يتغمد فقيدنا المعلم بالمغفرة والرحمة .
وعندما بدأنا بمواساة بعضنا البعض ، استرعى انتباهنا زميلنا ( اللبخة ) يسيرُ وحده ، منفرداً عن الآخرين ، وهو غارق في الضحك ، فاقترب منه أحد الرفاق متسائلاً :
– ما بكَ .. ؟ لماذا تضحكُ وأنت بمفردك ، هل هذا أوان الضحك .. ؟ قال :
– كنت أواسي نفسي من الحزن على الاستاذ ، هذا المعلم الذي توفى في عيد المعلم – وأضاف – حدا بيتوفى في يوم عيده.!
بربكم يا شباب مين اللبخة أنا ولا الاستاذ .. ؟
قال أحد الرفاق :
– ولهذا كنت تضحك .. ؟ فأجاب اللبخة :
– ألم أقل لكم كنت أواسي نفسي ، حيث رويت لنفسي نكتاً ، فسمعت واحدة لم أكن أعرفها من قبل ، فأضحكتني طويلاً .
وللآن ما برحت وأقراني ، وقد طار غرابنا ( علا رأسنا الشيب وتلاشى شعرنا الأسود ) ، نضحك على ضحكه ، وما زال لقبه قائماً ندعوه به للآن ب ( اللبخة ) ، وهو الذي تفوق علينا بالمال والجاه والغنى ، بل وجميعنا نتوسل إليه في إصلاح سياراتنا ، لما يصيني ورفاقي من ضجر عند الذهاب إلى المنطقة الصناعية ، فكان هذا اللبخة هو الوحيد الذي ينقذنا من مشاق مشوار المدينة الصناعية ومعاناته ، بأن يرسل إلينا أحد صناعه ليشحط السيارة المكربجة إلى ورشته في الصناعة ثم يعيدها إلينا مساءً وكأنها فرس متوثب للسباق ، فكان مصداق المثل : ” الصديق وقت الضيق ” .
ولما كانت ” بالشكر تدوم النعم ” ، كان لساننا يلهج بكل عبارات الثناء على معلم الميكانيك المحترف على الرغم ما يتقاضاه من أجرٍ عالٍ ، مما يدفعنا لشتمه وتذكيره بأن معلم الصف الخامس – رحمه الله – كان منصفاً في منحه لقب
” اللبخة ” ، فيضحك كثيراً ، ثم يشتمه ويشتمنا وبحركة لولبية سريعة يرفع أصبعه الوسطى ، يوجهها إلى معلم المدرسة الذي صارت عظامه مكاحل – حسب تعبيره – ثم يضرب بأصابع كفيه الغليظتين على جيبي بنطاله المنتفختان بالمال ، فيما فرغت حقابئنا من النقود حتى خفس جزدان الجيب وبات كورقة السيجارة ، أو ضماد اللبخة .
لم يكتف هذا الميكانيكي اللبخة بما تقاضاه من أجر ، لا أشبعه الله ، لنفاجىء بتوهج الضوء الأحمر في تابلو السيارة ، يعلن مؤشرها نفاذ خزانها من الوقود ، وعندما نستغرب هذا التصرف من صديقنا اللبخة ، يجيب :
– يسواك ما يسوى غيرك ، ظلم بالسوية عدل بالرعية ، كل أصحاب السيارات يملكون بطاقة ذكية لتعبئة الوقود بسعر المقنن .
فأقسم أحدهم أمامه عدة مرات أنه يشتري ليتر البنزين بالسعر الحر لأن بطاقته معطلة ، وأن سيارته ذات سعة 2000 CC ؛ أجأب معلم الميكانيك :
– أي شو بدي ساويلك إذا الحكومة ضحكت عليك ، أخذت منك مصاري وأوراق ومستندات وورق بول ( طوابع ) وتعا وروح وروح وتعا ، واعطتك بطاقة لبخة ، قال 2000 CC قال .
لقد تمكن صديقنا اللبخة من وضعنا في اتجاه آخر ونحن نلج دائرة السؤال : ” من منّا اللبخة .. ؟ ” .
اللاذقية ٢٨ / ٦ / ٢٠٢٠ ……/ للحديث تتمة .