الناقد الفني والأدبي الاستاذ عبدالرزاق كيلو
الرؤية الفنية الجمالية
وعلاقاتها بالأفكار المجردة
في أعمال فنانة الشعب
” هيام علي بدر “
الحلقة الأولى
لا ريب… أن الإبداع الذي يعتمد على الرؤية الفنية يسير في سياق تراكمي عبر الأجيال على اختلاف العصور.
إن عين الفنان المبدع..هي عبارة عن تناص جدلي بين عصر و آخر…فعين الفنان في العصور القديمة لها نفس القيمة في العصور الحديثة… و لا يبدو الاختلاف إلا من حيث كون موضوع الفن مجزءا من عصر لآخر… حسب صيرورة الحياة البشرية التي تظهر فيها دوما حالات ملحة جديدة لم تكن في العصر السابق على المرحلة التاريخية التي ينتمي إليها الفنان المبدع الذي يكرس عمله على النحو الذي يخدم به جماهيره.
و لكن يبقى القاسم المشترك بين فناني العصور القديمة و فناني العصر الحديث يمتثل بالحالات و الحاجات البشرية المطلقة التي تمس قيم الخير و الحق و العدل.
فهذه القيم في سلم التصنيف الجمالي _ خاصة في الفن التشكيلي _ دائما حاجات ملحة تدفع الفنان المبدع إلى تجسيد عمله مستخدما مخيلته معتمدا المشاهدة العينية كأداة رؤية في إبراز قيم فنه التجسيدي الذي يثير خيال المتلقي تصورا و فكرا.
و تقوم ضمن هذا الإطار الفلسفي الجمالي جميع منحوتات الفنانين المبدعين و مجسماتهم التشكيلية و رسومهم باعتبارها أوابد بشرية تثير الدهشة الجمالية خارج حدود زمانها و مكانها… فأعمال الفنانين المبدعين لأي عصر كانت تنتمي تثير لدينا الدهشة في أي متحف عرضت أو على أي منصة للفن أقيمت… و على أي جدار تموضع إطارها… و هذا الأمر يؤدي بنا إلى اعتقاد حتمي في قوانين علم الجمال و قيمه…و هو أن الأعمال الفنية( نحت _ رسم _ تشكيل ) قائم على أساس الحركة البنوية السيميائية متحولة من من شكلها المادي إلى فكرة أو معنى لازب في خيال المتلقي و عقله.. و كأن هذا العمل _ أي عمل إبداعي _ صادر عن جهاز تخيلي و تراسلي متشابه جدا..تتناص فيه عين المخيلة( الفنان ) و العين المتخيلة( المتلقي ) على أساس من الإدراك يطلق حكما جماليا واحدا متشابها عند جميع المتلقين حسب مستوياتهم الثقافية و المعرفية… و لكن يبقى تذوقهم الجمالي واحدا ماثلا في الماضي و الحاضر و المستقبل…فمن منا من لم تحرض خياله ذائقته الفنية عندما يرى لوحة جميلة للفنان بيكاسو .. و حتما لو افترضنا جدلا أن أي إنسان من الأجيال السابقة التي عفا عنها الزمان شاهد صورة حنظلة العربي للفنان المعاصر ناجي العلي رحمه الله سيدرك تماما ما عليه حياتنا من بؤس و شقاء و ضياع و عوز.
ما نريد قوله من هذه المقدمة… أن اللوحة الفنية تصبح فكرة عقلية مجردة تصور الواقع بحذافيره بما هو واقع حقيقة و ليس بما هو متخيل في مخيلة تعلو على الواقع أو تتجاهل علاقاته بما يسمى بإبداع المخيلة للمخيلة في الأعمال التي تحاكي الطبيعة ليس إلا..!
من هذا المنطلق الفلسفي و القيمي…رأينا تشكل البصري و تحوله إلى ما هو فكري يخاطب العقل أكثر مما يحرك متعة تذوق الجميل في أعمال فنانة الشعب” هيام علي بدر ” من خلال لوحاتها الفنية المستوحاة من رحم الواقع…قدمتها كنموذج استكشافي لتراسل حواس الفنان في تجربة جمالية و إبداعية من الصعب تكررها عند فنانين آخرين.
فهي اكتشفت بإحساسها الفني فضاء جماليا عبرت فيه عن حاجات أساسية في الحياة الإنسانية كالحاجة إلى الحب أو الفرح أو الاستقرار في الكفاية المعيشية… و غيرها.
(يتبع )
2………………………الرؤية الفنية الجمالية
وعلاقاته بالأفكار المجردة
في أعمال فنانة الشعب
” هيام علي بدر “
( مأساة شعب )
الحلقة الثانية
إن الديناميكية الجمالية التي تنطلق منها الفنانة ” هيام علي بدر ” تمثل المحالات الأبرز في الحاجات الإنسانية في مجتمعها الذي كاد أن يتفلت من أي إحساس بعالم الجمال المطلق الدالف نحو أبواب الأمل بحياة حرة كريمة يجد فيها المرء تكامله الإنساني و رشده المعيشي وسط أتون الخيبات التي أقضت له على مضجعه فلا يعود يفكر إلا بتجاوز متربته في يوم ذي مسغبة..!
فاستحالت الصورة بين يديها إلى رمز يعبر عن حاجة إنسانية ملحة تحت وطأة واقع تلقى فيه الصورة المطابقة في خيال المتلقي وجعا و ألما مبينا.
نلاحظ أنها نوعت من أعمالها الفنية التي أرخت لها عنان التوسل إلى الحياة و محاكاتها بلغة جمالية كي تضمن للناس قداسة الفرح .. فيجد سبيله خارج حدود الذات.. و هي تلملم في لغتها التعبيرية الموحية عبر إيماءات التشكيل الفني… ما تبقى من جوانب الخير… و تشد من طاقة الناس الخلاقة على مجابهة الواقع البائس التعيس…و ترفع من قدرة النفس البشرية على تحمل ضغوط الحياة التي لا ترحم مسحت كرامة الإنسان مسحا مقننا من جهة أعدائهم… أعداء الوطن و الإنسانية… سواء العدو الظاهري التاريخي… أو العدو الداخلي المبطن بالفساد القومي و الوطني….! نعم…بالمطلق .. لم تعد الحاجات المعيشية تنسجم مع أقصى طاقات الناس المادية و المعنوية…و كأن الغاشية باتت على وقع صافرة..!
رغم ذلك _كما يبدو واضحا في الصورة(مأساة شعب ) _ الناس يمضون تحت وضوح الشمس في رتل مستقيم يشكون بؤسهم لمواجعهم… ويمرغون ذلهم بقهر قلوبهم في انطواء ذاتي..لا مواسي … و لا معين لهم سوى الصمت الذي يأكل على مهل براعم أمنياتهم… و يعصف بأغصان أحلامهم رمادا محترقا في كل صوب و اتجاه.. تتساقط أوراقها في خريف الحياة الدائم..تتعرى فيه النفس عن كل شيء جميل فلا يجدون فيها إلا القبح و الظلم و الخوف …ملكت فيه يد الأثرياء الفاسدين مفاتيح ربيع الحياة الزاهر …فطفقوا يفرحون و يعبثون في ريع الحياة يرسمون فيها للفقراء طريقا صعبا شائكا بالألم و الوجع.
و لعل الفنانة تعبر في هذه الصورة المشكلة من حجارة الوطن
عن رؤيتها الفلسفية و الأخلاقية التي تميل نحو مثالية منطوية على ذاتها المعذبة.. و على حلمها الإنساني بحياة نابضة بالفرح و السكينة و الإستقرار.
و يبدو في التجسيم الحجري داخل اللوحة شكل الوجوه و الرؤوس المنحنية( إلا رأسا يرمق نحو السماء بعد أن أعيته الحيل الأرضية .. فتوجه نحو حيلة افتراضية يتلمسها من الغيب المجهول ) ممسوحة الملامح البشرية أبقت فيها الفنانة الهيئة الإنسانية البائسة لتعبر عن موضوع الصورة (مأساة شعب ) بافتقاده للكرامة… و للحرية حتى بحدودها الدنيا.. حرية العيش بأمان و صدق و محبة…حتى الانطباعات النفسية عادت تفرض عليه فرضا…و كأن الفنانة تعلل عن حالة الأسر و البيوتات الفقيرة التي سقطت أحلام أطفالها في دنان أطماع الفاسدين الأثرياء يثملون من سكر مواجع الفقراء( و هي حالة مطابقة للواقع تماما ) .
و تذكرنا هذه اللوحة الفنية… بمقدرة الفنانين المبدعين _ قديما و حديثا _ على تحويل الصورة المنحوتة إلى فكرة مجردة تثير فكر المتلقي أكثر مما يثير خياله إطارها الجمالي في الشكل الخارجي… فملامح الصورة المادية للشكل تنسحب من الإطار التشكيلي و التجسيمي و تبقى في الظل مكعبة المعنى و الفكرة في عقل المتلقي و ليس في خياله.. تذوقا لجمال التعبير في لغة الجسد الايحائية توشوش عقل المتلقي اعجابا بقدرة الفنانة المبدعة في التمرد على الواقع و رفضه رفضا قاطعا استنادا لما يستشفه المتلقي من قوة الإحساس و وخز الضمير التائق إلى الحق و العدل.
إن ملامح الصورة الفنية( أربعة أشخاص يسيرون مترادفين كخط مستقيم ) تعبيرا عن ذل الحياة التي أفقرتهم من كل شيء…! حتى جردتهم عن عن الشكاية…؟ فكيف يشكون..؟ و لمن..؟ بعد أن عز عليهم الطالب و المطلوب…فاختاروا الصمت للتعبير عن حالة الذل و القهر…!
و القيمة الفنية في تشخيص الصورة تعبير الفنانة عن وجدانها الحي و فلسفتها الجمالية حيث تحول الغضب إلى سلام يعزف نشيده على آلة نفسها تواسي به الألم بالألم…و الحزن بالشجن… و الحاجة بمرافقة المحتاج الشريك بالمأساة و المعاناة….نعم إنها مأساة شعب… لا يبيع ضميره لناعق في سوق نخاسة الوجدان يشتري بالدرهم و الدولار…!
إنه الصمت… يثير التداعيات في نفس المتلقي كخطاب سردي متضمنا في الحدث الفيزيولوجي المطابق للصورة في الواقع… و مع ذلك تبقي الفنانة على شكيمتها الوجدانية و تعاليها عن الذل شعورا و إحساسا بالفقراء الذين باتوا يشكلون الغالبية العظمى من الشعوب العربية… فكرة تحت خط الفقر متجسدة تماما في الرؤوس المنحنية و الوجوه البائسة غابت معالمها البشرية في كهف الحياة الجائرة…..روعة التحدي في الصورة أنها تحولت إلى مفاهيم اجتماعية مجردة تسيطر على الأعصاب و الدماء التي يضخها القلب في الشرايين و الأوردة تضاعف من وتيرة التراسل بين العقل و الخيال…. و الوعي و اللاوعي… تلك المفاهيم ربما تكون البوصلة التي تشير إلى بؤرة النفس الباحثة عن الحق و العدل كي تعيش بآمان و استقرار و محبة و سلام.
و هكذا يتآلف التمثيل الفني مع الأفكار و المعاني المجردة… فالصمت … و السكون… و السكوت الوجودي كامن خلف الشكل المرسوم و المجسد حجريا…يعادل مراحل ثقافية و إعلامية ينتقل خلالها المرء من مرحلة إلى أخرى باللاشعور.
فعاصفة الغضب تدنف قطراتها على مخيلة المتلقي و هو يتأمل في الشكل حيث يتحول الساكن إلى متحرك…غضب منزوي مع ذاته معدوم الوجود خارجها…بعد أن أصبحنا نعيش حياة بلا حياة…! فوق كوكب الأرض.
( يتبع )