لما كان لكل بداية نهاية فقد ابتدأ العام الدراسي الجديد ، وانتهت إجازة الصيف التي امتدت شهوراً .
كانت سعادتنا لا توصف للهمة القوية والنشاط الجاد ، والابتسامة المشرقة التي استقبلتُ بها وأقراني من تلاميذ الصف السادس الإبتدائي ، بدء العام المدرسي الجديد على الرغم من ستائر الحزن التي ما زالت مسدلة على أغلب بلدان الوطن العربي .
كنّا نسير بزهوٍ وخيلاء ، أو ( كقدك المياس يا عمري …) في خطوات متثاقلة فوق الاسمنت الإسفلتي الصلب أو ما يطلق عليه ( البيتيومين ) لباحة المدرسة ، نزرعها ذهاباً وإياباً ، زرافات ووحدانا ، وليس هناك من يعكر مزاجنا ، أو يتقدمنا في صفوف المرحلة الإبتدائية ، كنّا سادة الموقف ، وكل التلاميذ هم دوننا ، فشعرنا بأنفسنا كباراً ، ونحن نتحدث عن الصدمة التي أصابت الأمة ، عندما أُعلن منذ أيام قلائل عن وفاة الزعيم العربي الرئيس جمال عبدالناصر .
وكان صوت صديقنا ( اللبخة ) أقرب للصياح منه للحديث الذي تحلى به باقي زملاء الصف وهذا ما عزاه أحدهم إلى تحرره من معلم الصف الخامس الذي ألصق به لقب ( اللبخة ) ومع بدء هذا العام تخلص من قمعه ، لا سيما وان معلم الصف الجديد ، السادس الإبتدائي ، يملك هيبة نادرة ، وهمة خامدة ، وكف جامدة ، لا يلفظ هراءً ، أو يطلق ألقاباً هزيلة ، كل حديثه موزون بعصا الزان التي يحملها معه ويصطحبها في حله وترحاله ، لا تفارقه إلا إذا رماها على تلميذ بعيد عنه وعلى هذا التلميذ أن يجلبها مسرعاً للمعلم ، ويَمدُّ يديه أمامه باسطاً كفيه الغضتين كطفلة متسولة على قارعة الرصيف .
لم يأبه ( اللبخة ) لهذا التحليل ، حين قال بحنق ٍ :
– لقد نمت بدون عشاء يوم إذاعة الخبر من الراديو ، وشاهدت أبي يبكي بحرقة شديدة ، حزناً على عبد الناصر ، فبكيت ، ولما رأيت أمي تولول وهي تَشدُّ شَعرها بعد أن مزقت حجابها الأبيض ، لم أتمالك نفسي فخبطت جهاز الراديو ثم حملته ورميته بكل قوة على الأرض . – ثم أضاف قائلاً – :
– بأختي يا شباب ، الله يلعن أبو اللي عما يكذب ، أكلت كفين بيسو نوم العينين ، نسوني الحليب اللي رضعته ، لقد هوت صفعتان قويتان على وجهي ، كانتا كفيلتان أن أرى حطام الراديو أجزاء متناثرة في أرجاء البيت ، وراح أبي يفرك كفيه ببعضهما ، وكأني أنا من صفعته ، ثم استدار نحوي مهدداً :
” راجع عليك يا ملعون الوالدين ” ، وولج إلى بيت جارنا الذي يجلس قرب مذياعه وبيده منديل قماشي ملون يمسح به وجهه .
وعندما جففت أمي دموعها ، نظرت إلي بعطف ، فتوقفتُ عن البكاء ؛ سألتني :
– هل انتهيت من البكاء …؟!؟ قلت لها :
– لا ، لكني أستريح قليلاً .
كانت الشمس تمتد بألسنتها الحارة فوق رؤوسنا عندما قرع جرس المدرسة ، وكان رنينه قوياً ، بدأ التلاميذ بالإصطفاف ، وصار للباحة شكلاً هندسياً مميزاً ، عمَّ الهدوء المكان وكاد يتحول إلى سكينة لولا صخب بعض أقراني ؛ فجأة صاح مدير المدرسة :
– يا شناتير ، بتخرسو وإلا بتلعب العصا على جنابكم .. !
لم يصغ إليه أحد ، صاح المدير ثانية :
– سادس . . يا شناتير .
فخيم الصمت على الجميع ، ثم سرت همهمات أو شيئاً من الوشوشات بيننا ، قال تلميذ :
– بلشنا ..! قال تلميذ ثان :
– من أول يوم …! قال آخر متعجباً :
– شناتير …!!! أضاف أحدهم :
– لقب جديد .. ( شنتير ) . قال اللبخة بصوت خافت :
– شو معنى شنتير …؟ تصدى اثنان من التلاميذ للإجابة معاً في الوقت نفسه :
– شنتير ، يعني طويل ضخم جداً وبدون عقل .
قال اللبخة بتهكم : شنتير يريد أن يطير .
وكأن مدير المدرسة سمع صوت زميلنا اللبخة ، مما كلفه صفعتين قويتين ، لبخهما المدير على خديه بوقت واحد ، فانتفخ وجهه كرغيف خبز ساخن خرج للتو من بيت النار ، فأصيب المدير بلبخة الذهول لما صنع ، ثم قال :
– إنني أضربك لأني أحبك . قال التلميذ ( اللبخة ) :
– وأنا أيضاً أحبك ولكني لبخة لا أستطيع التعبير .
عاد اللبخة إلى بيته حزيناً ، وعندما شاهده والده على هذا النحو ، سأله : ما حالك يا بني ..!؟!
خاف اللبخة أن يصارح والده بما حدث له في أول يوم من أيام المدرسة ، وهو الذي يمكن أن يعتبر يوماً خاصاً ، فقال :
– لا شيء ، اني أفكر .
قال الأب : فيم تفكر يا بني ..؟
وبدون تردد ، أجاب اللبخة :
– مضى الصيف ولم أرَ معظم أصدقائي ، وعندما رأيتهم اليوم شاهدتهم قد كبروا كثيراً عن العام الدراسي الفائت .. والآن أفكر .. ، عندما يكبر أصدقائي ، ألعب مع مَنْ ..؟
وكأن لبخة توسدت على عيني الأب لما أصابه من جواب ولده فأغمض عينيه ثم فتحهما بتمهل شديد ، وقال :
– يا ولدي .. ، المدرسة معرفة ، تتبع رسمياً لوزارة المعارف ، هل نلت شيئاً من معارف في اليوم الأول من المدرسة . . ؟
قال الابن ( اللبخة ) :
– عرفت شيئاً مهماً في المدرسة اليوم .
الأب بلهفة : وما هو هذا الشيء الهام …؟
أجاب اللبخة ببرود : جميع الأولاد قد أخذوا من آبائهم مصروفاً .
لعل سحابة سوداء مرت أمام عيني الأب الذي أغمض عينيه بامتعاض شديد وصفع بيده اليمنى جبينه الذي اندفق الدم منه بغزارة هائلة .
اللاذقية ١٧ / ٧ / ٢٠٢٠ ☆ بسام جبلاوي .
….. / للحديث تتمة