سام جبلاوي
·
قبل أن تضرب ( أم رشيد ) الأرض بكعب حذائها، أطلقت تنهيدة مليئة بالحرقة ثم تحسست، ربما كانت للمرة العاشرة أو أكثر، بأناملها عيدان القش الخشنة، المغزولة كقاعدة للكرسي الخشبي الذي تجلس عليه، وأنشبت أصابعها المطلية نهاياتها بالمنكير الأحمر الفاقع، فأنتفض جسدها وكأن تياراً كهربائياً مسه فأصابها بالذهول مما شكل كتلة منتفخة كالعوامة في جبينها الأبيض بعد أن عقدت حاجيبها بقوة لا متناهية، وقالت في سرها : ” كل شيء حسبنا حسابه إلاَّ الدق على بابه ” ، ثم أردفت المثل الذي ضربته بآخر : ” كل المصايب قدام القعدة على هيك كرسي تهون ” .
حبست ( أم رشيد – مليان السطل ) أنفاسها من جديد بعد أن شنفت أذنيها إلى زغرودة أطلقتها احدى النسوة بصوت عالٍ :
يُسعد صَباحكَ يا كتلة فرنجية
يا قش عنبر يا خلقة إلهية
لو قدمولي بدالك من ألف لمية
أنا ما بهوى بدالك ولا إلي بحدا نية .
برمت أم رشيد بوزها ثم نهضت متثاقلة، وصاحت بصوت متهدج : ” أَوَدعناكُن ” .. ولم تتلقَ جواباً، فانطلقت بغضب خارج الصالون الذي أفضى بها خارج الدار، وإنسلت وراءها
( الحاجة شكرية – نمل بدني )، التي سمعت إحداهن تقول بصوت خافت : ” سبحان مين راح وخفف ” .
لم تبتعد السيدتان كثيراً، وصوت الغناء ما زال مسموعاً بوضوح؛ قالت الحاجة شكرية :
– خير أم رشيد ليش طلعتي، لسه الحفلة بأولتها …؟
لم تتفوه أم رشيد بأي كلمة، وقد ابتدأ جبينها يتفصد عرقاً؛ وأمام إلحاح السؤال قالت :
– وليش طلعتي إنتي يا ست شكرية .. ؟
لم يرق السؤال المفاجئ للحاجة شكرية نمل بدني، فقالت :
– كسرنا الدف وبطلنا الغنى، ثم بربرت كلاماً غير مفهوم، وعادت للسؤال مرة أخرى :
– بالله عليك ِ أم رشيد ليش تركت ِ الحفلة مع انه (أم اللبخة) رحبت بك ِ وبالأهلا وسهلا، كتير، استقبلتك لما دخلت ِ وهذا ما لم تفعله مع غيرك، والمثل بيقول : لا قيللي ولا تطعميني .
ازداد وجه أم رشيد انتفاخاً وكأن كاسات حجامة قد نزعت عنه للتو . فقالت بنبرة لا تخلو من الغضب :
– يعني ما بتعرفي ليش طلعت ..! لك أنا أم رشيد على سن ورمح بقعد على كرسي خشب وقش، وغيري بيقعد على كرسي خيزران، بنت أبو جبس بيناولوها واحد خيزران وشوي يمكن يجيبولها ( الجيزلون )، و ( أم رشيد مليان السطل ) ما حدا معبرها، اي تضرب هي وابنها ” كل آفة عليها آفة ” ، ما حدا صار عريف صف غيره، لهاللبخة، عازمة أمه ” أمة لا إله إلا الله ” .
شعرت ( الحاجة شكرية نمل بدني ) بضرورة إغاظة ( أم رشيد مليان السطل ) أكثر، فقالت :
– ما شفتي كمان هالفصعونة اللي عما تدق عَ الدربكة قاعدة على كرسي خيزران عما يلمع لمع، قاطعتها أم رشيد :
– ان شاء الله بتقعد ما بتقوم . ثم استأنفت شكرية قولها :
– قولتك يا أم رشيد، هلق عاملة اختنا بالله حفلة لأنو ابنها اللبخة صار عريف لصف السادس، معلق على زنده شريطة حمراء، شاددا بدبوس قفلة، ساعة بتزحط لتحت وساعة بتطلع لفوق، أي والله والله ابن اختي، طالب بكالوريا، حطوه فتى عام، بتعرفي شو بيشتغل صهري زوج اختي … !
هزت أم رشيد رأسها وقالت بتأفف :
– بعرف إلو كلمة بالدولة .
صاحت شكرية بنبرة عالية :
– إلو كلمة، أي كلمته ما بتصير كلمتين، وبتعرفي شو معناتا ابن اختي ( فتى عام ) يعني أقل من الضابط بنتفة، عين الله عليه، لابس بدلة الفتوة وعلى كتافه كتافيَّات صفر وشريطة خضرا على كل كتَّافيَّه، والخضرا أعلى شي حتى زوج اختي بيكتب بالأخضر وبيوقع بالأخضر.
لوت أم رشيد رأسها عدة مرات ثم فتحت حقيبتها الشخصية، لعلها تفقدت شيئ ما ثم قفلتها بإحكام، وقالت بزهو :
– أي بدك تعلميني بالأخضر، أي ابني الصغير بيعرف انه في مصر اسمه أرنب .
لم تَعر الحاجة نمل بدني لحديث قرينتها أي اهتمام، قائلة :
– وابن اختي معلق بريم كمان أخضر على جهة اليسار، أطول من نرببج الأركيلة، نازل من رأس جذعه وكأنه بارم على خصره، مدندل الدندل بآخرته قلم نحاس بيلمع متل الدهب، شو مفكرا يا أم رشيد، ابن اختي الأساتذة بيحسبولو حساب، أيه مدير المدرسة، قد ودلق، بدو رضا ابن اختي .
لم تُسرّ ( أم رشيد – مليان السطل ) بما سردته ( شكرية – نمل بدني ) على مسامعها، فقالت بصوت مسموع :
– القرعة بتتباهى بشعر بنت خالتها .
ضحكت شكرية نمل بدني بصوتٍ عالٍ فبان سنها الذهبي، وكأنها تقصدت ذلك لتغيظ أم رشيد مليان السطل ، فشعرت الأخيرة بامتعاض مؤلم، أو كأن أفعى رقطاء قد لدغتها، وأصابها إقياء شديد، فقالت :
– وليش اختك ما عزمتنا عَ الحفلة ..؟ طالما صار ابنها فتى عام، متل ما قالوا : كل الديوك نقرتنا ما بقي إلا أبو حميرة ..!!
احتدت الحاجة شكرية لما سمعته وكسى وجهها احتقان مشوب بالحمرة، فقالت بلهجة الواثقة من نفسها :
– الملافظ سعد . لا يا أم رشيد ما تغلطي، بعيد الشر عنها، اختي عقلها كبير وبتحسبها عَ الطاير، هي ما عملت حفلة ولا عزمت حدا، قال ليش لتتخسر هلق، وهي بعد كام شهر بدها تعمل لابنها حفلة مطنطنة، ساعة بياخد البكالوريا، وبيصير له قيمة . قاطعتها أم رشيد بقولها :
– هلق عملتيه لابن اختك شغلة كبيرة وتحت إيدين الضابط، وأعلى من المدير، وما شايف حدا قدامو …!
استعادت الحاجة شكرية أنفاسها فهدأت من روعها، وقالت:
– عَ النجاح بيجوا هالمعازيم ومعهم هدايا، وإنتي ست العارفين، من دهنه سقيلو، وحياتك ِ إنتي وبناتك وكنانينك أول المدعوات، حتى كنتك بنت العقربي بدي اعزمها، وأنا بنفسي بدي شيلكن كراسي الخيزران .
التفت أم رشيد مليان السطل إلى محدثتها قائلة بحدة صارخة :
– شو عما تتبوجقي ..! شبها كنتي بنت العقربي، أي والله بتقول للقمر قوم لأقعد مطرحك .
وكأن الحاجة شكرية، التي تعرف من يؤكل لحم الكتف، قد أمسكت أم رشيد من اليد التي توجعها، فقالت بصوت ممطوط :
– وَ لو أم رشيد ما إنتي بتقولي عنها ” لبخة ” وين ما رحتي ووين ما جيتي، إنها لبخة …!
طأطأت أم رشيد رأسها وراح الإنتفاخ ينحسر عن وجهها، فقالت :
– بس ليش إنتي طلعتي من الحفلة وحضرة جنابك قاعدة على كرسي خيزران لنج …!
قنصت شكرية … بكامل جسدها فامتد ظلها على الأرض كشجرة صفصاف عارية، وقالت :
– أي أأقل منها .. لقد استعاروا عشر كراسي خيزران من عنّا، وسبعة من بيت سلفتي ( هنا ) .. الله يهني أيامك .. ، بس أنا طلعت من قلة ذوق ابنتها اخته ل ( اللبخة ) الكبيرة، ضيفت كل العالم شراب، ومرقت من قدامي استحت على حالها اضيفني كباية ليمونادة، بعدين … لم تدعها أم رشيد تكمل حديثها فقاطعتها بقولها :
– أأأنا شفتك بعيني هي اللي بدو يأكلها الدود، وإنتي عما تتلمضي بشفافيك، وبإيدك كاسة الليمونادة نصفها ملفوف بمنديل أبيض مطرز بزهر، كيف بتقولي ما ضيفتك ..! الكذب عَ الميتين ما عَ الطيبين، شكرية حارتنا ضيقة وبنعرف بعضنا، بعدين شو كنت ِ عما تساوي بالمطبخ، شفتك فاتحة براد الجماعة، وطلعتي من المطبخ وإنتي عما تمسحي تمك وتنكوشي اسنانك ..!
بهتت الحاجة شكرية نمل بدني، لما أصابها من كلام أم رشيد مليان السطل، وهذا ما لم تكن تتوقعه على الأرجح فتلعثمت شكرية وبحركة لا شعورية مسحت فمها براحة كفها من جديد، وقالت :
– ضيفتني اختها الصغيرة، بس أنا كنت قاعدة بالزاوية خصوصي، مشان إتضيف بأول صف وتاني صف، ما هيك العادة أم رشيد، نسيتي حالك يوم اللي كنّا …، قاطعتها (..مليان السطل ) مباشرة، وقالت :
– والله، أنا ما وصل الدور لعندي ولا تضيفت، ولو ضيفوني، ما راح اتضيف، ولا قادرة امسك كباية ليمونادة وأنا قاعدة على كرسي الخشب، وكل وحدة منهن مقنزعة على كرسي خيزران، عاملة لحالها زوم ومرقة .
وكأن مدير المدرسة شعر فيما بعد بأنه ارتكب ذنباً خطيراً عندما صفع اللبخة على وجهه أمام جميع التلاميذ وعلى مرأى من الكادر التدريسي والإداري للمدرسة، وبقي اللبخة منتصباً أمام الجميع كعمود سانت أليكسي، لا ينبس بأي لفظٍ، وهو يتلقى الصفعة تلو الصفعة، وربما غيره من التلاميذ قد ابتلت ثيابه لهول ما رأى .
ويبدو أن المدير أراد التكفير عن ذنبه فأوعز لمعلم الصف السادس بتسمية زميلنا اللبخة عريفاً على تلاميذ الشعبة الأولى من الصف السادس، وكانت هي المرة الأولى التي يُخرج بها عن المألوف وتغيب عملية الديمقراطية القسرية، فيسمى واحداً من غير أبناء المعلمين عريفاً على صفه .
وهذا ما فتح المجال سراً لتساؤلات عديدة بين المعلمين، حيث سمع أحد التلامذة نجوى بعضهم، فأصغى إلى مناجاتهما :
– ألا تدري سر قوة اللبخة .. ! والده عامل بوفية في المصرف التجاري الذي يقع في الطابق الأرضي من بناء مديرية التربية والتعليم، قرب مدرسة الفرير، يعني إيده طايلة .
قال الآخر :
– الله يرحم أهل الأمثال، ما خلو شي إلا وقالوه، حقاً : دجاجة الحكومة نمر .
…… / للحديث تتمة
اللاذقية ١٠ آب ٢٠٢٠ . ☆ بسام جبلاوي .