هذه التفاصيل لا تهم بعض «المتحذلقين» في بلدي، هؤلاء لديهم القدرة على انتقاد أي زلة لسان، تعبير عفوي، قلة في التركيز، أو حتى خطأ بشري طبيعي قد يقع فيه أي واحد منهم في ظل ظروف أقل وطأة مما مر فيه من قضوا كل تلك الأيام والساعات في الأسر، فتكر تعليقاتهم وأحكامهم المسبقة ذات الخلفيات المختلفة وأهمها، الشعور بالنقص تجاه ذاك الذي احتل الشاشة بدلاً عنهم واستقطب الأضواء ولو كان «معذباً، معتقلاً، مظلوماً».
الحاج عباس شعيب، أحد المحررين من آيدي تكفيريي أعزاز (لا أخفي أنه ابن عمي، كما يعلم كثيرون)، وقد يكون للعاطفة وللقرابة تأثيرها فيما أكتبه عنه اليوم، لكنني بالتأكيد أصارع القلم لأكتب دفاعاً عن الإنسان الذي مر بظروف معينة قبل أن أدافع عنه وهو قريبي المظلوم .. حتى الساعة.
زرته ولم يكن بنيتي سوى التهنئة بالسلامة، فوجدته واقفاً يتنقل بين الأحبة، يدعوه الجميع للجلوس والراحة وهو المصاب بعدة مشاكل صحية نتيجة التعذيب الذي تعرض له في معتقله، فيبتسم ويقول «هكذا أسهل.. نتنقل بين الأحبة» ، شو مفكريني «شخصية سياسية» بدي أقعد ويمرقوا الكل يسلمو عليي؟.
رجل عادي، إبن عائلة كادحة، ترك مهنة والده وامتهن تنظيم حملات الحج والزيارة كما فعل العديد من الشباب لمواكبة التطور الذي لحق بعمل «المعرفين» الذين يرافقون الزوار والحجاج الى الأماكن المقدسة، وبرع فيه بنشاطه وحيويته في عمله لدرجة كانت حملاته تشهد ازدحاماً دائماً.
حين قرر تنظيم حملة الزيارة الأخيرة والأطول في حياته، الى ايران عبر سوريا كما هي العادة براً، جاءت احدى جاراته (التي كانت موجودة اليوم تستقبله محرراً)، لتخبره أنها رأت حلماً غير مطمئن بخصوص هذه الزيارة، فأجابها «الإتكال على الله وهو الميسر»، ومضى في رحلته، التي استغرقت وعلى غير عادة، سنة وخمسة أشهر، وهي في العادة لا تزيد عن الأسبوعين ذهاباً وإياباً.
يتذكر الحاج عباس بصعوبة، لحظات الخطف الأولى، لا زال للتعب أثاره على الجسد المثقل بالهموم، لكن الذكريات القاسية تفرض نفسها على الذاكرة : «عندما انطلقنا من معبر باب السلامة كانت الإجراءات غريبة وليست كالمعتاد، ولاحظنا وجود سيارة تسير خلفنا، لاحقونا منذ لحظة خروجنا من المعبر، كانت السيارة تسير الى جانبنا قبل ان يشير الينا من بداخلها للتوقف.. يميناً، بإشارة من سلاحه، فطلبت من السائق أن يسرع، لكنهم كانوا اسرع منا ووقفوا في منتصف الطريق، شاهرين اسلحتهم باتجاهنا».
يستذكر الحاج عباس صعودهم الى الباص سائلين إن كانوا ايرانيين، فيجيبهم «لا نحن لبنانيون»، فيطلبون منهم أن يتفضلوا بزيارتهم لساعة، قبل أن يكملوا مسيرهم.
«وضعوني في صندوق السيارة الخلفي مع السيد علي عباس» وكان أبو رائد (أحد الخاطفين) يمازح صديقه سائلاً «إذا وضعنا هذه العبوة هنا، ماذا يتبقى من السيارة» فيجيبه الآخر «الدولاب فقط؟؟» ويغرق الإثنان في نوبة ضحك متجبرة.
علم الحاج عندها أن الأمور متجهة للأسوأ، لكنه لم يكن يعلم ما حل ببقية الزوار إلى أن تم نقلهم إلى معسكر الإعتقال، هناك فقط علمنا ما حل بالنساء (أي في اليوم التالي)، حين أرانا الخاطفون صوراً لهم لحظة وصولهم الى بيروت.
نقلوهم إلى المعسكر الذي يقع على أطراف بلدة أعزاز وليس بداخلها، والطريق اليه وعرة واستغرقت حوالي الربع ساعة، هناك التقوا «أبو ابراهيم» لأول مرة، وكان حديثه ودياً، عبر فيه عن الكثير من التفهم مؤكداً أن إقامتهم لن تكون طويلة، حاول جاهداً أن يطلب منهم تفهم «مطالبه كـ ثائر» قبل أن يتم فصلهم عن بعض ويبدأ التحقيق الذي استغرق ١٢ ساعة متواصلة مع الحاج عباس شعيب لوحده، وكانت التهمة الملفقة أنه مسؤول في سرايا حزب الله-الدفاع الجوي.
داخل المعسكر كنا في خيمة على مسافة قريبة من المنطقة المحايدة وكنا نشاهد حركتهم وتعاملهم المريح مع الاتراك وكان يزورهم الكثير من الأشخاص الذين يبدو عليهم أنهم مرموقين، والمفاجأة كانت حضور النائب اللبناني عقاب صقر أكثر من ٣ مرات لزيارة أبو ابراهيم في المعسكر.
يؤكد عباس شعيب مشاهدته للنائب اللبناني من خلال ثقوب في الخيمة التي كنا فيها «الخيمة التي كان يجتمع فيها ابو ابراهيم وعقاب صقر لا تبعد عشرة امتار عن خيمتنا»، كذلك اكد لنا حقيقة ما شاهدنا قيام محمد نور (المسؤول الإعلامي السابق) بعرض مجموعة من الصور لهم مع عقاب صقر على هاتفه الخليوي.
مما يدفعك للتساؤل عن سبب زيارة عقاب صقر المبكرة لمعسكر أبو ابراهيم، وإن كان بنية الإطمئنان على المخطوفين فلما لم يطلب مشاهدتهم أو اللقاء بهم، خصوصاً أن الزيارات بدأت في وقت مبكر وقبل انطلاق الوساطات!.
لا يمكن للحديث مع الحاج عباس أن يأخذ مداه، فالمهنئون ينتظرون عند باب مكتب الحملة، والإعلاميون يشيرون له بأن وقت ظهوره على الشاشة قد اقترب، ومن مراسل إلى صحفي إلى اتصال هاتفي، يسرق الوقت والانتظار لحظات ثمينة من «شوق العائلة» التي تشترط عليه أن يكون اللقاء التلفزيوني الأخير لهذه الليلة، وبعدها الى البيت مباشرة، يبتسم الحاج عباس موافقاً، ويأخذ مكانه أمام الكاميرا، تسلط الإضاءة على الأخوة الثلاثة «عباس وسامي ودانيال» يجلسون إلى جانب بعضهم للمرة الأولى منذ ٥٣٠ يوماً، تقطع عليهم المراسلة حديثاً سريعاً دار بينهم وتشير إليهم.. نحن على الهواء الآن.