طغت، وعلى نحو لافت، وقبل الحرب الكونية الهوجاء على سورية، بعقد تقريباً، سلسلة متناغمة ومتناسقة، من الدراما التلفزيونية السورية ذات الخلفية المناطقية الشامية الريفية “البلدي”، تحديداً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، “ليالي الصالحية” و”أهل الراية”، و”ألدبور”، وزمن البرغوت”، و”أيام شامية”، وتوجت بالمسلسل الإرهابي الشهير الذي كان، حقيقة، خريطة عمل “الثوّار”، ودعوة لهم للتخلص من، وقتل “العواينية” (الشبيحة ورجال النظام “اللي راح ينذلـّوا” حسب أغنية المقدمة التي رددها التلفزيون السوري ملايين المرات على مسامع السوريين خلال فترة عرض المسلسل التي استمرت سنوات طويلة)، ما يفترض أنها كانت عملية ممنهجة ومدروسة للإعداد العقائدي والفكري والثقافي والتهيئة النفسية لـ”الثورة”، وبأدوات، وبمفارقة مؤلمة وجارحة، ووسائل إعلام وشاشات “النظام” ذاته المستهدف من قبل هذه “الثورة”.
فبعد انحسار ملحوظ للمسلسلات البدوية، حتى في الشاشات الخليجية، التي كانت قد اتخذت خياراً إعلامياً واضحاً يعكس الحياة العصرية والرفاهية وبحبوحة العيش التي يرفل فيها مواطنو مشيخات الخليج الفارسي، كان في المقابل هناك، وفي الإعلام الرسمي السوري، ميل واضح، واتجاه ممنهج، لبدونة الحياة بشكل عام، والدراما السورية وترييفها، وإيقاظ تلك الروح والشخصية الريفية القروية الشامية التقليدية، تحديداً، وإعادة فرض أنماطها المعيشية، والفكرية، والسلوكية المتزمتة، والمغلقة، والمُحـَافــِظة، وتكريسها، وإظهارها كسمة نمطية لـ”السوري” الذي يجب أن ينال، ضمناً، احترام المشاهد والجهة الرسمية الراعية لإنتاج مثل هذه الأعمال، وإرسال الرسائل في غير اتجاه، عن الإعجاب بهذا النمط المجتمعي، وتمجيده وتفخيمه وأسطرته. ولو لاحظنا، مثلاً، مدى الـTension ، وحالة الـ ٍSuspense الترقب العالي التي كان ينبغي أن تنتاب المشاهدين وتشغلهم حلقات طويلة بشأن مصير شعرة شارب محمود (عباس النوري) العابس المتجهم القانط أبداً، وما للشارب من رمزية في عمق الثقافة الريفية، والوجدان الشعبي لأدركنا مدى ما هو المشغول عليه، وما هو المطلوب في الصميم، من تركيز على و”بعث” لعادات ميتة، وماضوية، وإعادة تفعيلها مجتمعياً على هذا النحو، وكأن هذه الشعرة من “الشارب”، وبكل ما أحيطت به من هالة وقداسة في التقليد الريفي، ستقرر مصير وحركة التاريخ والمجتمع في سوريا، في عملية التركيز الفظ والسمج على الموروث الثقافي وتعظيمه حد القداسة، واعتباره تابوهاً لا يجوز مناقشته، وحث وتحريض ضمني، في المقابل، للالتصاق والاحتماء بها، مع إحاطة الموقف بكل تلك المؤثرات المكفهرّة، العابسة، والشخصيات المتوثبة والمتحفزة غير المهادنة المتوترة العصابية الـ neurotic دائماً، والتركيز على القيم القبلية والعائلية وبقية العصبويات الفئوية ما قبل الدول المدنية ودولة المواطنة المعروفة في العصر الحديث، في الوقت نفسه كان هناك منهج واضح للهزء والحط من قدر وترثيث والسخرية من ثقافات وسلوكيات أنماط مجتمعية أخرى عبر مسلسلات ودراما خصصت لهذه الغاية كما حصل في مسلسل “الخربة” الذي استهدف سخرية شريحة مجتمعية سورية، كما بالنسبة للسخرية من شخصية رجل الأمن السوري عبر تنميطه وحصره بشريحة مجتمعية في مسلسل “أيام الولدنة”.
في عملية الاختلال القائم والواضح في الإنتاج من حيث الموازين القيمية والرسائل الضمنية للدراما السورية يمكن ملاحظة الآتي: في الشام أو “دمشق”، هناك طبقة بورجوازية، وحتى أرستقراطية، مخملية راقية جداً، وهناك شريحة عريضة تشكل النسيج المجتمعي العام لـ”الشوام”، أبناء المدينة، وشاءت المقادير خلال دراستي الجامعية في العاصمة السورية في بداية ثمانينات القرن الفارط، تعرفي على المدينة عن كثب، والتصاقي الروحي وعشقي الكبير لها، ومزاملتي لبعض من أبناء هذه الطبقات، التي كانت على درجة عالية من التنوير والانفتاح المجتمعي والفكري والثقافي، والبعد تماماً عن الانغلاق والتزمت والروح المحافظة جداً التي كانت الدراما السورية تحاول تظهيرها والتركيز عليها وإبراز الشخصية الريفية النمطية، وهذا ليس انتقاداً أو نيلاً من أبناء الريف الشامي قدر كونه توصيفاً لواقع سوسيولوجي صرف ومحاولة استثماره وتوظيفه في مشاريع سياسية، لكن الملاحظ، وما أود قوله، لماذا كان، في الفترة الأخيرة التي سبقت “الثورة” الوهابية في سوريا، هذا الغياب التام للدراما التلفزيونية، “الرسمية” والخاصة، ولو بجزء يسير، عن تغطية ثقافة وحياة المدينة المنفتحة والأكثر عقلانية وتنويراً وانفتاحاً مجتمعياً، وذات قيم أكثر علمانية وعصرنة، وتركيز الدراما الفظ والممجوج على الحياة والثقافة الريفية الرعوية المحافظة وقيمها، والعمل على فرض نمط أحادي لشخصية ابن الريف ذي “الشروال والغترة أو الحطة” المعروفة، الشخص العصابي، غير القادر على التأقلم مع الآخر ومع العصرنة ومحاولة إحياء كل هذا في نفوس أهل الريف الذين شكلوا الوقود الأكبر لـ”الثورة” وعصب المسلحين الذين أرادوا العودة لتلك البيئة التي صورها لهم التلفزيون على نحو رومانسي أقنومي، وساحر مــُأسطر، والتي لا يمكن العودة لها وإعادة إنتاجها في ظل وجود كل هؤلاء “الغرباء” والمختلفين، والعلمانيين وأبناء المدينة المختلفين الذي يجب “الثورة” عليهم.
لكل إعلام هدف واستراتيجية ورسالة محددة، ولا يمكن أن تكون تلك المنهجية الواضحة التي أشرنا إليها في هذا المقال عبثية أو مصادفة ومن دون هدف معلن أو مضمر. لقد كانت الدراما التلفزيونية السورية، بذلك، ومن حيث تدري، أو لا تدري، تعدّ العدة، وتساهم في إشعال فتيل الحرب ضد سوريا، وعاملاً مساعداً لتأجيج الصراع ومده بكل الأسباب والعوامل الثقافية والفكرية، والقوة الناعمة لتأجيجه، فيما اقتصرت مهمة الآخرين، فقط على الإمداد اللوجستي والمادي والقوة الخشنة، التي لا يساوي أي شيء يذكر، معيارياً، أمام عملية الإعداد العقائدي، والفكري والروحي.