هوامش على تجربة
دولة محمد على فى مصر
بقلم : م ابوزيد
ما أطرحه اليوم هو محصلة عملية بحثية معمقة دامت لأكثر من خمسة عشر سنة حاولت خلالها سبر أغوار التاريخ ، وإعادة قراءته ، سعيا للوصول إلى مواضع المسكوت عنه فى تاريخنا ..وهو مشرف ومبهر ..والناء هنا تعود على مصر وسوريا على وجه الخصوص ..وهذا ليس تقليلا من شأن الآخرين ، وإنما لأن اوجه الإرتباط بين التاريخين المصرى والسورى أكبر من ان يتجاهلها باحث جاد ، أو مثقف مجتهد ، وحريص على الموضوعية ..
الموضوع أضخم من ان اعرضه كاملا فيسبوكيا ..لذا سأضع بعض الهوامش المرتبطة بواقع اليوم …
1
لولا إلتزام رأس المال الأوربى بمبدأ الإبقاء على الدولة العثمانية ككيان سياسى فى مواجهة مصر ، لكانت الدولة العثمانية فى ذمة التاريخ ، ولغيرت دولة محمد على موازين القوى فى العالم بأسره . فمنذ إنشاء الدولة العثمانية لم تستطع اى قوة هزيمة هذه الدولة فى عقر دارها مثلما فعلت مصر . وعندما نقول مصر فإننا نعنى مصر وسوريا ..فملحمة العظيم إبراهيم باشا سطرت بسواعد الشعبين ومقاتليهم الأشداء ، بل وكانت سوريا هى الجدار الذى أسند إبراهيم باشا ظهره إليه . ( انظر فى ذلك الكتاب القيم للدكتور محمد عبد الستار _ المواجهة المصرية الاوربية فى عهد محمد على _ دار الشروق – الطبعة الاولى ٢٠٠١ _ ص ١٠٤ )
فقد سحق الجيش المصرى الجيش التركى فى معركة نصيبين ، وإنهارت تركيا عسكريا ، وبرزت مصر كأخطر قوة عسكرية فى شرق المتوسط . ويقول د. لويس عوض فى مؤلفه تاريخ الفكر المصرى الحديث انه ” كان أمام الدول الاوربية إما قبول موت الرجل المريض وقيام إمبراطورية مصرية تسد على اوربا منافذ الشرق القريب والبعيد ، وإما التدخل لتصفية مصر المستقلة الناهضة الطامحة ، فإختارت الحل الثانى لأن التعامل مع إمبراطورية مهلهلة كان انفع وأسهل من التعامل مع إمبراطورية فى شرخ الشباب ”
ص ٣٣ ، ص ٣٤ ..
2
لقد أستطاع محمد على خلال ثلاثة عقود إرساء بناء صناعى كبير ، وقد إرتبطت كثير من الصناعات بالجيش والاسطول بعد إنشائهما ، مما اتاح بناء دولة حديثة وقوية أخذت فى التوسع إلى حد الإرتفاع بمصر إلى مستوى الإمبراطورية التى لعبت دورا مهما فى التأثير على الأمن الاوربى مما أدى إلى ظهور ما يسمى بالمسألة المصرية . فقد أنشأ محمد على جيشا يفوق فى تنظيمه وتسليحه كل الجيوش الموجودة فى الدولة العثمانية . وتقول الدكتورة عفاف السيد مارسو فى مؤلفها القيم مصر فى عهد محمد على : فما إن تملك محمد على كل مقومات الدولة ( جيشا واسطولا يحمى مصر من الغزوات ) ، وما إن أستثمر الأموال فى زراعة متوسعة وصناعة منطلقة ، حتى طمح فى ان يذهب إلى آخر مدى …الإنعتاق من التبعية المركزية للدولة العثمانية ، وتكوين إمبراطورية يحكمها من القاهرة ) ..عفاف السيد مارسو _ مصر فى عهد محمد على _ ترجمة عبد السميع على زين الدين _ المجلس الاعلى للثقافة بمصر ٢٠٠٤ _ ص ٢٩٥ _٢٩٦ …وبالطبع فإننا لا نوافق على ماذهبت إليه الدكتورة عفاف مارسو من توصيف توسع محمد على بأنه كان خيارا إمبرياليا يتوافق مع الفكر الميركانتيلى بصبغته الإمبرياليه ..فبه إسقاط للتجربة الاوربية على تجربة محمد على بكل خصوصيتها .. فلم يذهب محمد على لبلاد الشام غازيا ، وإنما لتأكيد العمق الإستراتيجى للأمن القومى العربى ولحماية الامن القومى لتلك البلدان .
3
فمصر التى كانت جزء من الإمبراطورية العثمانية قد تحولت إلى قوة تكبرها ، بل وبدأت تطمع فى أراضيها ، إذ استطاعت خلال أقل من ثلاثة عقود أن تبنى جيشا مستقلا عن الدولة العثمانية ، وأن تقيم نسيجا من العلاقات شبه المستقلة مع الدول الاوربية مما جعل مصر من الناحية العملية غير تابعة للدولة العثمانية ، وأتاح لمحمد على ان يستقل فعليا بحكمه ، وأن يحقق أطماعه بجعل مصر دولة كبرى فى المنطقة . وكان إنحسار موجة التدخل الاوربى المباشر فى شؤون مصر أحد ثمرات هذا الإستقلال ..ويمكن القول ان وجود دولة محمد على قد أجل أمر الاستيلاء على مصر من قبل الدول الاوربية . فمخطط محمد على كان يرمى إلى تحرير البلاد العربية كلها من نير التبعية العثمانية بقوة السلاح المصرى ..( انظر فى ذلك : عبدالرحمن الرافعى _ عصر محمد على _ ص ٢٤٥ : ٢٤٧ .
4
إمتدت إمبراطورية محمد على على مساحة خمسة ملايين كيلو متر مربع اى نصف اوربا بالكامل ، فجمعت بين دوائر جغرافية لم تبلغها مصر فى أى عصر من عصورها القديمة ، فهذه الإمبراطورية تعادل من الإمبراطورية العثمانية نصف مساحتها ، ويمكن القول ان الإمبراطورية العثمانية إنما كانت دون الإسم وقبله مملكة ثنائية كإمبراطورية النمسا _ المجر المعاصرة على نحو من الانحاء كما يقول جمال حمدان ، او إن شئت حكما ثنائيا بين تركيا ومصر بالدقة والكلام مازال لجمال حمدان .
فما عادت مصر مجرد ولاية او أيالة أخرى فى الإمبراطورية او حتى كبراها ، وإنما المنافس الحقيقى والند والغريم الوحيد . والحقيقة أن ميزان القوى بين دائرة مصر ودائرة آسيا الصغرى كاد ينقلب فى الإتجاه العكسى حين اخترقت مصر قلب الأناضول وهددت الأستانة فى وقت ما .. فلقد أصبحت مصر رجل الإمبراطورية القوى فى الوقت الذى تحولت فيه الإمبراطورية نفسها إلى رجل أوربا المريض .
ويرى البعض أن موقعتى حمص ونصيبين هما المقابل المضاد لمرج دابق والريدانية تاريخيا وإستراتيجيا بهما تم الثأر وتصفية الحساب نهائيا بين الدائرتين الجغرافيتين .
( انظر : جمال حمدان – شخصية مصر _ الجزء الثانى _ دار الهلال ١٩٩٤ _ ص ٦٣٧ : ٦٣٩ .
م . ابوزيد ..