تتفاقم خطورة المأساة الوطنية التي تعيشها طرابلس منذرة بسقوط الدولة واغتيال الوطن عبر تمزيق وحدة شعبه وتدمير مؤسساته جميعاً بعنوان الجيش.
لم تعد المسألة "شجاراً" بين حيين في مدينة واحدة يزيد من خطورته الاختلاف في الانتماء المذهبي والولاء السياسي.
هذه بعض تجليات المأساة التي تطحن الفيحاء وتلحق الأذى بتاريخها الوطني كقلعة للعروبة وعنوان للاعتزاز بوحدتها الصلبة التي صمدت في مواجهة مخاطر الحرب الأهلية ثم الصدام بين الأقرب من الأهل، وهي طرابلس الشام، والأقدس من قضايا الأمة، فلسطين التي كان أبناؤها في طليعة من انطلق من المجاهدين لنجدة شعبها ضد الاحتلال الإسرائيلي.
أما جوهر المأساة فيتبدى في العبثية التي تتعامل بها مؤسسات الدولة، رئاسة وحكومة بوزاراتها العديدة وجيشها، مع قضية طرابلس بوجوهها المأساوية وبأبعادها السياسية ونتائجها الكارثية على هذا "الكيان المركب"، والذي طالما تباهت قياداته السياسية بالادّعاء ان طوائفه "محميات"، لكل دولة ذات نفوذ "محميتها" وفي "الكيان" الذي ابتدع له نظامه الفريد، ثم استولد هذا النظام الطوائفي طبقته السياسية المهجنة.
فأما الرئاسة فتتفاوت اهتماماتها بين توفير المناخ الملائم لتمديد الولاية وبين استثمار اشتباك مشبوه بين الطلاب في واحدة من جامعات النخبة التي أنهت علاقتها بالتمييز بين اللبنانيين وفتحت أبوابها "للطلاب الآخرين" فأثارت غضب "المميزين" الذين انتبهوا إلى خطر المساواة الداهم وسقوط الامتياز التاريخي،
وأما الحكومة التي تضم، ولأول مرة في تاريخ لبنان السياسي، حشداً من وجاهات طرابلس، يستوي في ذلك أصحاب الدور في "شرعنة" هذا الكيان، ومعهم بعض الذين تصدوا للعمل العام بكفاءاتهم وقدراتهم المادية وحضورهم السياسي، فقد تبدت مشلولة تماماً، وتبدى هذا الحشد من "رجالاتها" مشغولاً عن "العاصمة الثانية" باهتمامات أخرى تتصل بتوطيد المكانة برضا "الخارج"، عربياً وأجنبياً،
على ان الأخطر والأمرّ والأدهى ان بعض هؤلاء قد دخل في سوق شراء "الشعبية"، بإظهار عصبية غير مبررة ثم ان لها "أصحابها" من "الأصوليين" الذين لهم من يرعاهم ويمولهم ويسلحهم لتحقيق "نصر" بالوكالة على النظام السوري، من دون الاهتمام بما يصيب طرابلس ونسيجها الداخلي ودورة الحياة الاقتصادية فيها من أضرار جسيمة تطاول رصيدها الوطني وكرامة أهلها فضلاً عن أمنهم واستقرار عيشهم وحماية مستقبل أجيالهم الطالعة…
هذا قبل الحديث عن سلامة المدينة التي تحفظ في طياتها صفحات من النضال الوطني، والتي طال حرمانها من حقها على دولتها في إنمائها وتعزيز دورها في خدمة الاقتصاد الوطني بإعادة مينائها إلى الحياة، ورفد مصادر الإنتاج فيها، وأولها الصناعة التي كانت بين مراكزها الأولى، حتى من قبل الاستقلال، وقد ضربها زلزال الحرب الأهلية فأقفلت أبوابها أو هربت منها..
يبقى أن "القرار السياسي" المرتبط بمصالح أصحاب الحل والربط قد عطل دور الجيش الذي يُطالب بأن يحسم ولكن من دون ان يؤذي تلك المصالح، ومن دون ان يُفقِد الزعامات والوجاهات مواقع نفوذها ومفاتيح شعبيتها من "قادة المحاور"، ومع مراعاة الحمى الطائفية والحساسيات الجهوية…
وهكذا يُرسل الجيش على مسؤوليته، ويدفع إلى تحمل عبء الدم من دون تغطية، بما يؤذي صورة الإجماع الوطني عليه ويهز مكانة قائده التي كانت قد تلقت ضربة معنوية عبر طريقة انجاز التمديد له في موقعه، والتي جعلته طالب ولاية،
الأخطر ان الجيش قد تحول إلى قوة فصل، تصيبه نيران الفرقاء جميعاً من دون ان يُمكَّن من الحسم، فتكون النتيجة ان يدفع من رصيده ثمن هذا التردد والعجز عن القرار.
كيف تنقذ طرابلس وفي دست المسؤولية مجموعة تهتم بمصالحها وحسابات الربح والخسارة، على المستوى الطائفي، ثم على المستوى الانتخابي، ثم على توازنات القوى واستدرار التأييد الخارجي للحكم ولو في بلد خَرِب؟!
طرابلس رمز الوطن وحيدة وهي شهيدة غياب الدولة المعطل قرارها وضحية الاشتباك الدولي في سوريا وعليها وضحية الطبقة السياسية التي تقدم مصالحها على الوطن والدولة والشعب جميعاً!