ما الذي يحصل في تركيا ؟ أهي عدوى ” الربيع العربي ” أم أعراضه ؟ أم هي حقيقة ” الباب الدوار ” ؟ أهو تعبير عن تداعي محركي ومروجي وأدوات … هذا الربيع ؟ أم أن هناك خط أحمر تم العبث به ؟ هل هو جزء من مسلسل سقوط الإسلام السياسي ؟ أم هو تعبير عن إنفراط عقد حلفاء أمريكا العضويين ؟ أم هو تعبير عن التناقضات الإقتصادية والإجتماعيّة والثقافيّة … للهوية الوطنية التركيّة غير المنجزة ؟ . بكل تأكيد هذه بعض الأسئلة لا كلها ، وكل إجابة على واحد من هذه الأسئلة وغيرها يشكل حتماً جزء من الإجابة الشافية للسؤال المركزي ، ما الذي يحصل في تركيا ؟ سأتحدث بإختصار في ستة عناوين فقط .
أردوغان عبث بخط أحمر
من المعروف للجميع أن تركيا دولة عضو في حلف النيتو ، وهذه العضوية حقيقة ماديّة ” ثقيلة ” يترتب عليها إلتزامات تصيب الإرادة الوطنيّة في الصميم ، وهذا ما غاب عن ذهن أردوغان و” إخوته ” عندما وقع عقداً لإستيراد أنظمة دفاع جوي من شركة ” CPMIEC ” الصينية والتي تخضع لعقوبات أمريكية منذ عشر سنوات مضت بسبب بيعها اسلحة ، وتقنيات صاروخيّة الى ايران وسوريا – وهي سابقة على مستوى دول حلف النيتو بالكامل – في صفقة بلغت أكثر من ثلاثة مليارت دولار مفضلاً إياها على شركة ” لوكهيد مارتن ” الأمريكية . تعرض أردوغان لضغوط أمريكيّة كبيرة جداً – أعادة لذهنه موقعه ووزنه الحقيقيين – مما إضطره إلى توقيع إتفاق جديد مع شركة ” لوكهيد مارتن ” لتورد بموجبه نظامها الخاص للدفاع الجوي ؛ مع مضي أردوغان في عقده المُبرم مع الصين إلى حين يجد فرصة للتنصل منه .
قسوة التاريخ
يبدو أن أردوغان نسي أنّه رئيس وزراء لدولة كانت تدعى قبل سنوات قليلة بالرجل المريض ، وأن الحدود السياسية التي يحكمها اليوم لم تكن أبداً خياراً وطنياً ، وأن تركيا اليوم بخطوط طولها وعرضها رُسمت في عواصم لم تكن لا أنقرة ولا إسطنبول من ضمنها ، وعلى نحو ما فإن هذا الكيان المسمى تركيا ما زال مصيره وقراره قابع في أقبية تلك العواصم . من يظن بأني أدّعي أو أُسقط موقفاً مسبقاً ، سأذكره بأزمة الصواريخ الكوبية في تشرين الأول من العام 1962. بعد أن نشرت الولايات المتحدة صواريخ من نوع ” تور ” في بريطانيا سنة 1958 وصواريخ من نوع ” جوبيتر ” في إيطاليا عام 1961، وعندما نشرت أمريكا في ذات العام 15 صاروخ جوبيتر بالستي متوسط المدى بمدينة أزمير التركية – والتي يبلغ مداها 1،500 ميل ( 2،410 كم ) – مستهدفة المدن الغربية للإتحاد السوفييتي بما فيهم موسكو التي تبعد عنها ب 15 دقيقة فقط . أصبح لدي أمريكا القدرة علي توجيه ضربات لموسكو بأكثر من 100 صاروخ ذي رأس نووي ، خاصة أنه حتي عام 1962 كان ما تملكه أمريكا من القنابل والرؤوس النووية أكثر بثماني مرات مما يملكه الإتحاد السوفييتي من جهة ، وسعيها للإطاحة بالنظام الكوبي المناهض لواشنطن من جهة أخرى ، وقيامها بعدة محاولات لإسقاطه فعلياً كما حدث بعمليتي غزو خليج الخنزيرة والنمس من جهة ثالثة . شرعت حكومتا كوبا والاتحاد السوفيتي في بناء قواعد سريّة لعدد من الصواريخ النووية متوسطة المدي على الأراضي الكوبيّة ؛ والتي تتيح للاتحاد السوفيتي ضرب أراضي الولايات المتحدة بشكل أسهل وأرسل خروتشوف في العام 1962 أكثر من40 ألف جندي والعشرات من الصواريخ المزودة برؤوس نووية إلي كوبا . ووصلت الأزمة لذروتها في 14 تشرين الثاني 1962 عندما أظهرت صور استطلاع التقطت من احدي طائرات التجسس الأمريكية عن وجود قواعد صواريخ سوفيتية نووية في كوبا . تفاعلت الأزمة ، ولكنها وصلت في نهايتها إلى حلّ سياسي سحب بموجبه السوفييت صواريخهم من كوبا ، وتعهد الأمريكيون بعدم غزو كوبا أبداً ، وسحبوا صواريخهم من تركيا . لم تكن تركيا يومها صاحبت القرار في وضع الصواريخ الأمريكيّة على أراضيها على الرغم من أنها جعلت منها هدفاً مشروعاً للسوفييت ، وكانت كذلك آخر من يعلم عندما قرر الأمريكيون سحب صواريخهم منها ، ولا أظن أن حال تركيا مختلف كثيراً اليوم .
التّنكر للحلفاء
واحدة من أهم أخطاء أردوغان تنكره لحلفاءه في الداخل والخارج ، والذين كان لهم اليد الطولى في بلوغه المواقع التي بلغها . أحيانا يرتكب بعض الأشخاص حماقات كبرى في حياتهم ، وتكون نتائجها أكبر وأعمق من أن تُصلح ، والتخلي عن الحلفاء والأصدقاء واحد من هذه الحماقات الكبرى ، وهذا ما فعله أردوغان مع حليفه القوي فتح الله غولن بالضبط . يعيش غولِن في منفى اختياري في ولاية بنسلفانيا الأميركية منذ عام 1999 حيث يترأس شبكة ضخمة غير رسمية من المدارس والمراكز البحثية والشركات ووسائل الإعلام في خمس قارات . خلق أتباع حركة غولن في تركيا ما يُعَدّ فعلياً دولة داخل الدولة التركية ، ورسخوا وجودهم بقوة في الشرطة والقضاء والجهاز البيروقراطي للدولة . وفتح الله غولن هو رجل دين ” إسلامي ” أسس شبكة ضخمة من المؤسسات الاجتماعية والثقافية التي لها نفوذ كبير، وتضم حاليا أكثر من 900 مدرسة خاصة في تركيا . وقد نشطت حركة غولن إلى جانب التحالف الذي دعم أردوغان من أبناء الطبقة الوسطى والأوساط الدينية ورجال الأعمال . وساعد ذلك التحالف الواسع أردوغان في الفوز بالانتخابات العامة ثلاث مرات . نشبت خلافات حادة بين الرجلين منذ عام تقريباً بسبب خلافات على السلطة ، وعلى مواقف من قضايا مهمة في المجتمع التركي مثل مفاوضات السلام مع الأكراد ومحاكمة قادة الجيش والسكن الجامعي المختلط والمدارس التحضيرية الخاصة … . هذا التنازع على السلطة ساهم إلى حدّ بعيد في كشف فرديّة أردوغان وإستبداده ، وعن قضايا فساد تطال أسرته ووزرائه وكبار رجالات حزبه . فقد أظهرت التحقيقات الأمنية ضد الفساد الأعمال القذرة لحكومة حزب العدالة والتنمية ، حيث ضُبطت آلات عدّ النقود ، وملايين الدولارات داخل عُلب الأحذية في منازل أبناء الوزراء ما أدى إلى فقدان الثقة به وبحكومته ، وتبين أن ملايين الدولارات كانت تُستخدم في تمويل الحرب في سوريا بشكل سري . وفي هذا الصدد قالت صحيفة ” سوزجو ” التركية ( إن أردوغان فقد فريقه على خلفية هذه الفضيحة المليئة بالفساد ، ما جعله يتخبط في مأزقه جراء تورط أربعة وزراء في حكومته إضافة إلى نجله بلال أردوغان بالفساد ، واضطراره للتضحية بأربعة وزراء متورطين بالفساد – وزراء الداخلية والاقتصاد والتجارة والبيئة – إضافة إلى إستقالة 8 نواب من الحزب ” . وكدليل على المزيد من الغرق في ملفات الفساد عزلت حكومة أردوغان 5 قيادات أمنية كبرى كانت لها سلطة اعتقال ، وملاحقة المتورطين في واحدة من أكبر قضايا الفساد والرشى . المعزولون الخمسة هم قادة وحدات جرائم المال والجريمة المنظمة ، ووحدة التهريب ، وفرع مكافحة الإرهاب ، وفرع الأمن العام .
الباب الدّوار
للجغرافيا سطوتها الحاكمة ، وتأثيرها العميق . فالجوار الجغرافي يعني التأثر والتأثير ، الإشراك والمشاركه ، الأخذ والعطاء … فلا يمكن لدولة أن تعيش معزولة عن جيرانها والدول المحيطة بها مهما حاولت ذلك . تركيا دولة جارة لسوريا ، عملت جاهدة للعبث بأمن سوريا ، وتدمير مقدراتها ، وإثارة الفتن فيها ، وتمزيق شعبها ، وتفتيت جيشها ، وراهنت على إسقاط قيادتها ، ونفذت ” دورة كاملة ” من الإرهاب على أراضيها إنتاجاً وإستيراداً وتدريباً وتسليحاً وإيواءاً ونقلاً لمجموعات إرهابيّة موصوفة … لضرب سوريا في العمق ، ولكنّ أردوغان وحكومته نسوا أنّ للجغرافيا باب دوار ؛ للخروج والدخول ، يستورد كما يُصدّر ، ويستقبل كما يُودّع ، ولنتذكر جيداً التفجير أمام القنصليّة الأمريكيّة وتفجيرات الريحانيّة ومخافر الشرطة … . هناك المئات من وسائل الإعلام والسياسيين الأتراك والأجانب الذين تحدثوا عن هذا الدور الإرهابي لتركيا في سوريا ، وآخر هذه الفضائح والجرائم الإرهابيّة الأردوغانيّة ما أكدته صحيفة ” يورت ” التركية حول العلاقة بين الماضي التجاري للإرهابي ( ياسين عبد الله القاضي رجل الاعمال السعودي ) صديق وزير الدفاع ونائب الرئيس الاميركي الأسبق ” ديك تشيني ” ممول تنظيم القاعدة ، وبين حكومة اردوغان . موضحة إن الإرهابي القاضي الذي أدرج في قائمة الإرهاب الدولي سنوات طويلة ، والمتورط في فضائح الفساد لم يستطع إخفاء علاقاته التجارية في تركيا مع اردوغان . وبيّنت أن ملف التحقيق مع الإرهابي القاضي يتضمن أسماء الشركات التي أسست بشراكة ” بلال أردوغان ” نجل اردوغان والقاضي ، إضافة إلى صور تثبت استخدامه سيارة رسمية تابعة للرئاسة . مُشيرة إلى أن الصور تشير بوضوح إلى دخول الإرهابي ” القاضي ” إلى تركيا مرات عديدة على الرغم من فرض الحظر على دخوله ودون العبور عبر الجمارك . يُشار إلى أن وزارة الخزينة الأمريكية أدرجت ياسين القاضي في قائمة المنظمات الموصوفة بالإرهاب في عام 2001 بسبب تمويله لتنظيم القاعدة الإرهابي ، وتنظيمات إرهابية مختلفة عن طريق الجمعيات الخيرية والشركات الوهمية . فهو عضو في جماعة الإخوان المسلمين ، ومقرب من أسامة بن لادن وقد اعترف بمسؤوليته عن تمويل الفيلق العربي في البوسنة والهرسك ( 1991-1995 ) .
غاب عن ذهن أردوغان وحلفائه ومشغليهم سؤالين مركزيين في حربهم على سوريا ، السؤال الأول ما العمل إن لم يسقط الأسد خلال الأشهر الثلاثة الأولى ؟ وإن لم يسقط أبداً ، ما هي تداعيات ذلك على تركيا وبقيّت الإقليم والعالم ؟ حتماً إن جزء هام من مشاكل أردوغان وتركيا اليوم يعود إلى عدم طرح هذين السؤلين والإجابة عنهما ؛ خصوصاً وأن لتركيا بنية إجتماعيّة وإقتصاديّة وثقافيّة وإثنيّة تشبه إلى حدّ كبير الموجودة في سوريا .
المصير الأسود لأعداء سوريا
خلال ثلاثة أعوام من الحرب على سوريا سقط الكثير من الأشخاص والمؤسسات وبقيت سوريا . لقد سقط ساركوزي ووزير خارجيته ، وحمد قطر ورئيس وزرائه ووزير خارجيته وقرضاويه وجزيرته ، وسقط مرسي وإخوته ، وسقط لأمريكا وزيرة خارجيتها ووزير دفاعها ومدير ( CIA ) ، والكثير من الصغار الذين يصعب حصرهم . واليوم يشعر أردوغان بأن الحبل يلتف حول عنقه ، ومستقبله السياسي بات على المحك لذلك أطلق تصريحه الشهير عشية سقوط مرسي : إذا قبلنا الإنقلاب العسكري الذي جرى في مصر ، فلن نستطيع أن نتحدث بعد الآن في حال حدوث انقلاب عسكري مماثل في مكان آخر .
خطيئة كبرى جديدة إرتكبها الإرهابيون
قامت إمرأة من داغستان – شمالي القوقاز – بتفجير نفسها بحافلة ركاب في مدينة ” فولغوغراد ” ما أدى لمقتل 6 أشخاص وجرح العشرات وقبل نهاية العام بساعات ، وخلال 24 ساعة يقع تفجيران متتاليان في ذات المدينة الروسية . التفجير الأول وقع في محطة سكة الحديد في المدينة مخلفّ 17 قتيل وعشرات الجرحى . والثاني أصاب حافة مخلفاً 14 قتيلاً وعشرات القتلى . كلّ ذلك يضرب روسيا وهي على بعد أسابيع من إنطلاق الألعاب الأولمبية الشتوية التي ستنطلق في مدينة سوتشي يوم 7 / 2 / 2014 في مدينة للألعاب كلّفت روسيا الإتحاديّة حتى اليوم 40 مليار دولار فقط ! ، وترغب موسكو أن تُحطم عدّة أرقام قياسيّة في هذه الدورة ، وأولها كان حمل الشعلة الأولومبيّة إلى المحطة الفضائية لتدور حول الأرض وإعادتها . إن المساس بهذا الحلم وبروسيا وبأمنها سيرتب عواقب وخيمة على الدول والمؤسسات والأفراد الداعمين لنشاط المجموعات الإرهابيّة ، وهذا ما نقل عن الرئيس الروسي ” بوتين ” بعد أن سلّمه مدير الأمن الفيدرالي الروسي ” ألكسندر بورتينكوف ” يوم الإثنين التقرير النهائي حول التحقيقات في تفجيرات فولغوغراد . فقد كشف التقرير أن أحد التفجيرات نفذها قيادي كان ينشط في جماعة مسلحة في سوريا مدعومة من السعودية ، مؤكداً أنّ من دبّر وخطّط وأدار تنفيذ هذه التفجيرات هي الجهات ذاتها التي تُفجّر في كلّ من العراق وسورية ولبنان ، في إشارة إلى السعودية من دون أن يذكرها بالإسم . فتوعد الرئيس بوتين الإرهابيين حسب وكالات الأنباء بقوله : سوف لن أُمهل الجُناة وقتاً طويلاً ، وردُّنا سيُغيّر خارطة الشرق الأوسط عن قريب ، وهذا وعد مني لأبناء روسيا العظمى ” . ومن سمع المؤتمر الصحفي الأخير لوزير الإعلام السوري عمران الزعبي سيكتشف بكل سهولة بأن سوريا أكثر من إستفاد من تخبط الإرهابيون وخطياياهم في روسيا ، وأن شراكة روسيّة كاملة مع سوريا في مكافحة ” الإرهاب والإرهابيين ” ستكون هي العلامة الفارقة للأسابيع والشهور القادمة وليس مؤتمر جنيف – 2 أو غيره . لننتظر ونرى أي حصاد جنته براقش بندر وصحبه في طول العالم وعرضه .