الفنان والباحث حسين صقور مكتب المعارض والصالات
( الحياة التشكيلية ثكلى ورحيله فاجعة أدمت القلوب )
كنت أراه في مقهى الرواق قبالة واحد من شيوخ النرد أو إلى جوار صمته الصارخ وسط الأحاديث الجانبية ، كان يبدو غافياً إنما لِعينٍ سطحية لا تعي عمق السكون ولا تستوعب أبعاد تجربةٍ ، وتاريخٍ لا زال يصرّ على حضور الندوات التشكيلية على مقعدٍ خلفيّ متطرّف كأيٍّ كان من الحضور ، وهو القامة الكبيرة وكل ما يقال في حضرته أمورٌ بسيطة وصغيرة ، وكان يتراءى لي أنه لم يفعل هذا إلا ليطمئن على المسيرة ، هكذا هم العظماء لا في نتاجهم فحسب بل في سلوكهم وفي عطر السيرة .
الفنان التاريخ نذير اسماعيل الذي غيّبه الموت في 12-10- 2016 غيبه الموت و هو الحاضر دوماً ، غيبه الموت قبل أن أستغلّ فرصةً تمدّني بوقود ذاكرته ، لم يكن هناك أيّ مبرّر لرأسي المزدحم ، فنذير اسماعيل الذي شرّفني بحضوره وانطباعاته الجميلة عن معرضي كان سيشرّفني أكثر لو أنه حدثني في سياق آخر يتعلق بحياته وذكرياته .. كنت أعزّي نفسي بوقتٍ أكثر اتساعاً وقد مرّ أسبوع معرضي سريعاً في دمشق التي عشقتها ، و في أماسي الرواق كنت قد عانقتها
حين عدت صرت أطمئن على صحته عبر صفحات الفيس ، وعبر التواصل مع أصدقاء مقربين منه و كنت أعتقد أن دخوله للمشفى كان عابراً وخصوصاً أن بعض الأصدقاء أكّدوا خروجه منها بالسلامة .
نذير اسماعيل شخصية فذّة سوف يسبر الزمن القادم أغوارها ، فأثره مستمرٌّ على الأجيال البعيدة والقريبة وعلى كل من يعي حجم عبقريته الفريدة ، كان ينشد البساطة الغنية ويؤكدها عبر وجوه تنبض محبةً و إنسانية ، ومع لوحته كان كما طفل يستمتع بشكلٍ أتقنه ثم يبني تكويناته على التكرار ، هذا كلّ ما كان يفعله ، ولكن ما كان لسواه أن يفعل لأنه في إمساك الخيط المؤدي إلى هذا سيفشل وسيكتشف أن كل ما قام به تقليدٌ ولن ينجح في هذا بالتأكيد .
فالتكرار ليس جملةً مُعادةً أو نُسَخاً زيادة ، التكرار ليس تأكيداً فحسب ، هو دعوةٌ للخوض واستكشاف أدقّ تفاصيل الحالة ومقدار ما فيها من غنىً واختلاف ، هو ميزةٌ في الأغاني الطربية لأم كلثوم طالما كان سامعوها يطربون .
نذير اسماعيل كان يلخّص مآسي الحياة في وجهٍ و إنسان ، وربما أراد أن يقول نظام التشابهات وارد ، ولكن نظام المخالفة هو الأقسى وهو استثناء ، فكل عالمٍ يربّي ابنه على العلم ، وكل عاملٍ يربّي ابنه على العمل ، وكل رغبةٍ مقهورةٍ تصير همّاً في صدور الآباء وحبالاً تخنق الأبناء .
فأيّ واحدٍ أنت فيهم يا نذير ؟!! هل أنت المشابه أم الاستثناء ؟ أعتقد أنك كنت المخالف دوماً وكنت متناغماً أيضاً مع كل الأشياء ، كنت شفّافاً إلى الوريد وسطوحك الطافية ووجوهك الغافية تؤكد هذا ثم تعيد .
أما أنا فكنت ولا زلت أقرأ الأفكار وأنتظر الأخبار من عصفورك الذي تركت لأجله رأسي مفتوحاً وقلبي مجروحاً يتهمني بالتقصير .
وأنت يا من ولدت مع الفن لم و لن ترحل طالما أجنحة الفنّ تحلّق فوقنا وتطير