بقلم:#أيوب مرعي أبو زور
“قرى الملول” مجموعة قصصية متميزة للكاتب اللبناني سليمان جمعة، صدرت عام 2016 عن حركة الريف الثقافية، تحتوي على باقة متنوعة من القصص القصيرة والقصص القصيرة جدا. جاءت هذه المجموعة بعد ستة دواوين شعرية للكاتب، و هي باكورة أعماله القصصية.
بعدما حققت القصة القصيرة استقلالها عن سائر الأجناس الأدبية الأخرى، و تفردت بسمات خاصة بها، استطاعت بفضل لغة خطابها المنسجم مع عصرنا هذا، إن كان من حيث الحجم، قصرها مكنها من شق طريقها نحو صفحات المجلات و الجرائد بشيء من السهولة، ومن جهة أخرى نرى أن قارى اليوم يميل نحو النصوص الأدبية القصيرة نسبيا التي تخاطب وجدانه و تمنحه المتعة و المعرفة الإنسانية لأي مستوى ثقافي انتمى.
تكونت “قرى الملول” من ثمانية و أربعين قصة؛ ثمانية و عشرون قصة قصيرة و عشرون قصة قصيرة جدا، و كل قصة منهم تحمل بين سطورها بذور الإبداع، و عطر الإنسانية، و ألوان الطبيعة النابضة بالحياة، كونها بمعظمها دارت أحداثها في أحضان طبيعة القرية الجبلية اللبنانية.
لقد استطاع الكاتب برؤيته الثاقبة، المنطلقة من تآخيه مع الطبيعة وعلاقتها بالإنسان القروي، أن يخاطب في القارئ الوجدان الإنساني، و الإنتماء للأرض و تكامله معها، حيث ظهر لنا هذا التواصل بين الإنسان و الأرض بوضوح في أكثر من مناسبة، و في بعض الأحيان قارب الإندماج بها. كما نجح الكاتب أيضا في عملية التكثيف، فكان الهدف دائما واضحا لديه، فلم نشهد في أي من القصص حشوا و لا عبارات زائدة أو غير منسجمة؛ و كان الوصف لديه في خدمة الشخصية و الحدث، و بعيدا كل البعد عن الزينة أو الوصف لمجرد الوصف؛ و اختار مفرداته بدقة، حيث بدى سرده كالسهم المنطلق نحو قلب الهدف، و هذا ما جعل قصصه متناسقة و متماسكة و في أبهى حلة. لقد استطاع الكاتب أيضا أن يجعل قصصه تنبض بالحيوية و الديناميكية، و نتج عن ذلك حركة دائمة تثير لدى القارئ اللهفة للآتي و حب الإستطلاع، و كان التشويق يزداد حينا، و حينا تخف حدته، لكن ناره لم تخمد مطلقا، مما جعل الإثارة مستمرة و حقق بذلك رضا القارئ.
عالج الكاتب في هذه المجموعة العديد من المواضيع الإنسانية، و في مقدمتها قضية القدس و الأراضي الفلسطينية المحتلة، و المقاومة فكرا و نهجا، و الشهادة في سبيل الأرض، و تحدث عن الحب و الحنين و الفراق، كما تحدث عن الحرية و الظلم و الأسر، و كان للذكريات حصتها كما الأحلام، و غيرها من المواضيع التي اشتركت جميعها بارتباطها الوثيق مع طبيعة القرية اللبنانية، حيث تظهر معالم هذه الطبيعة في كل سطر و تتبلور أمامنا بمفردات مثل الحديقة، و أسماء الأشجار (توت، زيزفون، زيتون، سنديان، ملول، دردار، الخ…)، الورود، التلال، السواقي، الحقول، الكروم، و غيرها الكثير من معالم قرى الملول، هذه البلدات اللبنانية الجنوبية المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة كما صرح الكاتب في قصته (حذر نائم، صفحة 47)، التي اتخذها (أي قرى الملول) عنوانا لمجموعته لما تحمله من ارتباط وثيق مع غالبية القصص من جهة، و مع ما أظهره الغلاف من حيث اللوحة التي تصور مشهد نبع الماء و جرة الفخار بيد الشاب حيث كانت هذه هي حال قرانا في الأمس القريب. و بحكم تنوع المواضيع جاء التنوع في الشخصيات، و من بينها فداء ابنة اللاجئة الفلسطينة، و أبو عامر المعتقل، و عشتار، و سامي و الدرويش، و دنيا العاقر، و الشهيدة أم محمد، و عائد و والده و أبطال المقاومة، و الطفل راني و جده، و غيرهم الكثير من الشخوص التي التقيناها بين دفتي هذه المجموعة.
تجلت براعة الكاتب بقدرته على تصوير الأحداث و رسم ملامح الحالة التي يتحدث عنها، و ظهر ذلك جليا في طرق معالجته للمواضيع، التي عكست موهبته و ثروته اللغوية و ثقافته الواسعة و تمكنه من أدواته، حيث بدت الشخصيات بين يديه مفعمة بالحياة، و الأحداث انسابت بسلاسة في زمكانها الذي أراده لها، و يرجع ذلك لوضوح الرؤية في ذهنه و تبلورها بأفضل السبل. و قد أجاد الكاتب أيضا في انتقاء الأساليب الفنية و دمجها مع بعض في كل قصة، فكان السرد لديه بمثابة النسيج من حيث الوصف و التصوير، و طرز الكاتب نسيجه ببراعة حرفي عتيق بالحوار حينا و حينا بالمونولوج، لينقل لنا الحدث بمهارة عالية و يجعلنا نشارك بأحاسيسنا في عالم القصة.