لا لسنا بالحرف وحدهُ نتفاهم ، وما قيمةُ الحرفِ وبالتالي الكِلمةِ نستعملُها جسراً للتّواصُلِ فيما بيننا وبينَ الآخرين ، إذا ما كان لنا أو للآخَرين ؛ أعينٌ لا نُبصِرُ بها ، وآذانٌ لا نسمعُ بها ، وقلوبٌ لا نفقَهُ بها !؟
فكَمْ مِنَ موسوعاتٍ للكتبِ والمُجلّداتِ لا تساوي ثمنَ الورقِ الذي كُتِبَتْ عليه ، والحبرِ الذي رسمَ حروفَها ورصَفَ كلماتِها ! وكمْ مِنْ كلِماتٍ نُطلِقُها وكنّا نقصُدُ منها ونرجو لها أنْ تكونَ حمائِمَ سلامٍ وعرابينَ مودِّةٍ ، باتّجاه بعضِنا الآخَرِ ؛ لكنّها تأتي بِعكسِ مفعولِها وما تَرجَّينا منها! فبدلاً مِنْ أنْ تُشيعَ روحَ الموّدةِ وتُمتِّنَ وشائِجَ المحبّةِ ، فإذا بها توسِّعُ هوّةَ الخِلافِ ، وترفعُ مستوى التّباغُضِ لدى الآخَرِ اتّجاهنا! وكمْ مِنْ ديباجةٍ كلاميّةٍ قدْ أشرَفَ على صياغتِها وتنميقها أناسٌ مُفوَّهون في فنّ الخطابِةِ والموعظةِ ؛ لِغرَضِ الإصلاحِ بين فئتين متخاصمتَين فعِوَضاً منْ أنْ تُطفئَ نارَ الحقدِ وتوقِدَ شموعَ الصُلْحِ ، وتُؤْتي أُكُلهَا وفاقاً وخيراً ؛ نراها تزيد منْ منسوب الكُره بين المُتخاصِمين ، وتُؤجِّجُ نيرانَ الفُرقةِ والعَداوةِ والشّحناءِ في صدور المُتنازِعين ، وربَّما تطالُ النيرانُ تلكَ الجِهاتِ المُبادِرةِ لإحلالِ السّلامِ ، والسّاعيةِ بصلاحِ ذاتِ البَينِ!
وبالمقابِلِ كمْ مِنْ صداقاتٍ حميمةٍ وتحالفاتٍ متينةٍ وصِلاتِ تباذُلٍ وتعاونٍ قامتْ بين أفرادٍ أو جماعاتٍ ، على بساطٍ منَ المحبّةٍ المتعاميةِ عن كلّ شيءٍ إلاّ ذاتَها! ألا نرى إلى التّفاهُمِ ما أقربهُ وأيسرهُ وأسرعهُ بين مُحبٍّ ومُحبٍّ حتّى وإنْ اختلفا في الطّباعِ والميولِ والأفكارِ ! وهلْ عبثاً القولُ بأنّ " الحبّ أعمى "! وإنّي لَأنحني إكباراً ألفَ مرّةٍ ومرّةٍ ؛ أمامَ عينٍ راضيةٍ مرضيَّةٍ لا تُبصِرُ منَ الأشياءِ غير جمالِها وحُسْنِها ، وتتغاضى قاصِدةً عنْ كلِّ عيبٍ ونقْصٍ! ولا تستوقفُني العينُ الساخِطةُ النّاقِمةُ مهما بلَغتْ منْ حدّةِ النّظرِ ودقّةِ المُلاحظَةِ ، لأنّها لا تريدُ أنْ تَرى منَ الأشياءِ سِوى نصفَها الفارِغِ لا المَلآن!
فكيفَ السّبيلُ إذاً للتّفاهُمِ بينَ أطرافٍ تتبارزُ بألسنتِها أكثرَ مِمّا تتحاورُ بعقولِها وتتفاهَمُ بقلوبِها!؟
وكيفَ يتفاهمُ اثنان منَ النّاسِ إذا ما تحصّنَ مُسبَقاً كلُّ امْرِئٍ منهم خلفَ سِياجٍ منْ سوء الظّنِّ بالآخَرِ ، مع الاستعدادِ سلَفاً وعن سابق عزمٍ وتصميمٍ ، لِعَدمِ فهْمِه والتّجاوبِ مع أفكارهِ وعواطِفهِ!؟
ويتساءَلُ النّاسُ ويتعجّبون معَ ذلك ؛ كيفَ لا تجري مياهُ التّفاهُمِ والانسجامِ بين طرفين مُتحاوِرين ، وهم يجهدون في إقامةِ السدودِ العاليةِ لِمنعِ تدفّقَ وسريانَ الماءِ بالاتّجاهَين!؟
لقد كنتُ وما أزالُ مِنْ أشدِّ المُتَحمّسين للكلِمَةِ وعظيمِ دورِها في صيرورةِ الإنسانِ فوق هذه المسكونةِ باللحم والدّمِ ؛ إلاّ أنّ ما يُعطي الكلِمةَ قيمتَها ويمنحَها عظمَتَها – بلا أدنى ريْبٍ – هو الإنسانُ ذاتُهُ ، فالإنسانُ مَنْ اخترعَ الحرفَ وطوّعَهُ لِلفهم والإفهامِ ، وهو الذي يُضفي عليهِ رونَقَهُ ، وعلى الكلِمةِ نضارتَها ، والكلِمةُ منْ دونِ الإنسانِ صنَمٌ مِنَ الحجارةِ لا نسمةَ حياةٍ تقطنُها ، فها هي ذي في القاموسِ أو المعجمِ مومياء لا روحَ فيها ، وأمّا مَنْ ينفخُ فيها الرّوحَ ، ويُخرِجُها مِنَ الظُّلُماتِ إلى النّورِ فهو الإنسانُ ، وكما الصّانِعُ كذاكَ صُنْعتُهُ ، فالنّقصُ لا يلِدُ سوى نقصاً على شاكِلِتِهِ ، والفوضى لا تستنسِخُ إلاّ فوضى منْ سِنخِها !
ونافِلَةُ القَولِ ؛ أنّ التّفاهُمَ بينَ النّاسِ أمرٌ مرهونٌ بالإنسانِ لا بغيرِهِ ، لأنّهُ الكتابُ الذي يضمُّ بين جوانِحهِ جوامِعَ الكَلِمِ مِنْ طيّبٍ وخبيثٍ ، فإنْ أردنا لِكلامِهِ أنْ يكونَ طيّباً على الدّوامِ ويقَعُ في النّفوسِ موقِعَاً طيّباً لا خبيثاً ؛ وجَبَ علينا أنْ نجْهدَ لِنرتفِعَ به منْ بهيميّتهِ إلى إنسانيّتِهِ ، ومِنْ همجيّتِهِ إلى رقيّهِ وسموّهِ ، ومِنْ بداوِتِهِ إلى تحضُّرِهِ ، ومِنْ غفلتِهِ إلى وعيهِ ، فالإنسانُ الرّاقي والمُتحضِّرُ والواعي هو الذي يُنتِجُ الحوارَ الهادئ والمُنظَّمَ ، ويسيرُ به إلى غايتِه المنشودةِ منه ؛ ألا وهي التّفاهُمُ على قاعدةِ المحبّةِ التي تستوعِبُ الأفكارَ والأقوالَ والأعمالَ ، وتؤلِّف بين القلوب ؛ مهما تنوّعتْ أشواقُها وتباينتْ مشاربُها ، وما الاختلاف حينذاكَ إلاّ لِعلّةِ التّكامُلِ ؛ والسُّموِّ للأَجَلِّ والأجملِ والأنفَعِ للجميع.