د. نعمه العبادي- العراق
” ما كان، لا يمكن بعد اليوم ألا يكون قد كان: بعد اليوم هذا الواقع السري والغامض بعمق بأنه كان، هو زاده الى الابد”
فلاديمير يانكلفتش
كنت ولا ازال اصرخ بأعلى صوتي، ” ان جوهر مشكلاتنا الكبرى يعود الى الذاكرة”، هذه الاستعادة الحاضرة التي تعيد (الماضي) بنسخ جديدة بقدر عدد مرات التذكر، فهي مختلفة في كل نسخة حتى لدى الشخص الواحد في الحادثة الواحدة.
تكمن اهمية الذاكرة في كونها اكبر (مغذيات) بناء التصورات والمواقف على مستوى الفرد والمجتمع، وتقوم بعملية (تخادم سري)، لتبرير او تفسير مواقف بعدية إنطلاقا منها، حيث يتم استعادتها بنسخة جديدة تتوافق هذه التصورات والمواقف، فهي في هذا تأتي (بعد) وتشتغل على (الدعم والتعزيز)، لكنها في مجال الاستدلال والتبرير، تقدم على انها (قبل) وهي مستند ومنطلق الموقف من خلال مخاتلة نفسية تساهم في عملية إراحة وإسكات لتساؤلات الضمير والاستفهامات الجوانية.
(الذاكرة) مفهوم عابر ومتشابك تتوازعه اكثر من جهة معرفية، فبوصفها نشاطا ذهنيا إيحائيا، يشتغل عليها علم النفس، وكمصدر لصياغة الحدث التاريخي، يعتني بها المؤرخون وفلاسفة التاريخ، وكأحد مدخلات بناء الهوية الذاتية الفردية والجماعية، يتناولها علم الاجتماع، وكونها مرتبطة بالفضاء العام والذاكرة الجمعية، تتقاسمها السياسة وعلم الاجتماع، وحين ننظر لها كعامل توتر يغذي حالة الانقسام والتصدع، تعد من مسؤوليات العلوم الامنية، واذا تحولت الى خطاب تداولي مع الاشتغال على بنيتها اللغوية والمفاهيمية، فالسيمائية وفقه اللغة والاعلام وحتى الفن يتشاركونها، لذا فإن معالجة الذاكرة كتحد عظيم في حياة الانسانية، وكأحد اكبر مصادر الوجع للبشرية، لا يزال امامه الكثير من البحث والدراسة، رغم وجود بعض النتاجات المهمة في هذا الجانب، كما هو العمل المهم لبول ريكور (الذاكرة، التاريخ، النسيان).
في كل مرة حين اتصفح المتاح من نتاج وسائل التواصل الاجتماعي، والذي يعد انعكاسا (تمثيليا مقبولا) لما تفكر به العامة، اجد حضورا عميقا ل (تدافع/صراع/تنافي) الذاكرة، إذ يقدم الافراد سرديات (سطحية او عميقة) عن تمثلاتهم للماضي القريب او البعيد، وفي كل مناحي الحياة، دون ان يلتفتوا الى ان تمثلات اخرى مختلفة في الجوار منهم إلا لمن يقوم بعملية رصد وتمعن وتدقيق، إذ تظهر عنده بوضوح الخطوط والشروخ والتصداعات التي تقدم الذاكرة حول حدث واحد على صورة (مرآة متشظية)، ويتبع هذا الانقسام، انشعاب اكبر في المواقف والتصورات يحول دون تشكيل (وحدة) في معظم القضايا.
(الزمن الجميل) و (الزمن القبيح) تنافي وتصارع وتضاد في اعادة صور الماضي المتصل بذات الفريقين من خلال قراءات متعددة وتمثلات مختلفة وزوايا نظر تتباين بحسب (كل واحد وما في قبضته) من معطيات.
لقد بقي النقاش حول ضحايا الماضي ومآسيه منحصرا في دائرة السياسة المثيرة للشقاق والتنازع اصلا، ودائرة المطالبة الحقوقية والقانونية التي تتأسس على سؤال المسؤولية وما يترتب عليها من جزاء، في حين ان الخلاص الممكن من ضغط الماضي ومآسيه لا يكمن في دائرة السياسة ولا في القانون وخطاب الحقوق، إنه يقع فيما وراء هذا كله، إنه يقع في دائرة النسيان والصفح إذا كان ممكنا، واكرر “إذا كان ممكنا”.
يتحدد الصفح، عند جاك دريدا، بما لا يقبل الصفح، بالجرائم الكبرى التي لا يمكن الصفح عنها، ويميز دريدا بين الصفح وبين السيرورة القضائية التي قد تنتهي بالادانة او التعويض وجبر الضرر، وهو يرى ان الحكم او القضاء لا يمت بصلة الى الصفح؛ لإن هذا الاخير يقع فيما وراء القانون، ولأن الضحية هو الشخص الوحيد الذي من حقه ان يصفح، فكيف يصفح من قتل في مذبحة جماعية مثلا؟ الجواب بحسب دريدا هو : لا احد، ومن هنا يصبح الصفح مستحيلا، يقول: ” ليس في مقدور الدولة ككيان غفل او لأية مؤسسة عمومية ان تمنح الصفح، ليس لها الحق، ولا القدرة، ولن يكون لخطواتها هذه اي معنى، يمكن لممثل الدولة ان يصدر حكما بيد ان الصفح، حقيقة، لا يمت بصلة للحكم، وليست له علاقة بالقضاء العمومي والسياسي، وحتى لو كان عادلا فإن عدالة الصفح تختلف كليا عن العدالة القضائية والقانون، وبهذا المعنى يكون الصفح خارج طاقتنا كبشر، لان من تعلق به الصفح غائب عن الوجود.
ان متعلقي الضحايا يملكون حق السرديات التي تخصهم من الذكريات، ولكنهم لا يملكون الحديث نيابة عن الضحايا، وما يتعلق بهم من امر، وكونهم جزء من ذاك المشهد العام الذي تتوسطه الضحية ويحيط بها المتعلقون.
في ظل هذا الضاغط الفاعل والحاضر بقوة، تغدو معادلة السيرورة في مأزق تام إلا ان نذهب الى منفذ آخر يمكن ان يكون خطوة متقدمة على التمترس عند وفي الذاكرة، يتمثل في انجاز مرحلة نقاش مسؤول ومنصف وموضوعي وعادل عن الماضي من اجل استلهام الدروس والعبر، ثم التحول الى منطقة استحقاقات العيش الآمن والبناء والعمل والانفتاح على المستقبل، وما لم تنجز مرحلة النقاش لما قبل العبور، لن نصل الى عبور آمن، بل ستتبعنا مخلفات صراع وتنافي الذاكرة في كل المحطات.
بالرغم من ان الحديث تركز على الذاكرة الجمعية والعامة إلا انه يشمل بالاولوية ما يتعلق بالذاكرة الفردية حتى على مستوى العلاقات الخاصة والشخصية.
اتمنى ان يحرك هذا النص نقاشا موضوعيا عميق يتناسب مع حجم الخطورة التي تشكلها (الذاكرة) كأحد أهم محفزات الانقسام.