د.نعمه العبادي- العراق
أعلن الروائي الفرنسي الشهير رينيه دي شاتوبريان أسفه وحزنه الشديد لكتابته روايته المشهورة (آلام الشاب فيرتر)، والتي منعتها الحكومة الفرنسية آنذاك لما سببته من فجيعة عبر عنها عالم الاجتماع الامريكي ديفيد فليسس بأسم ” تأثير فيرتر”، حيث سادت فرنسا واوربا وقتها في القرن الثامن عشر والتاسع عشر موجة ما سمي ب ” الانتحار المحاكي”.
اعداد من الشباب، وتجمعات، تقدم على الانتحار دون ان تكون لها اي اسباب منطقية، وهي ترتدي نفس ملابس فيرتر او تتقمص شخصيته، وتنتحر بشكل اقرب الى الممارسة الكرنفالية، بحيث اصبح الانتحار موديل يتم محاكاته.
منذ ازمنة قديمة طرحت مشكلة القارئ السيء، وما هي محددات الحكم على القراءة، والى اي حد يسمح لنا ان نمارس التأويل الى جانب فعل القراءة، وهل يمثل التماهي في المقروء او تقمصه نوعا من القراءة السيئة، وهل هناك قراءة خالصة وقراءة هجينة، وهل ان النص يبقى واحدا ام يتعدد بقدر قرائه؟
عندما نتحرى وجهات النظر بشكل يسمع ما خلف السطور نجد ان القارئ السيء بجملة واحدة هو ” الآخر” المختلف في منظور قرائته.
اتاح الفضاء الالكتروني مساحة لا متناهية للجميع وخصوصا للفاعلين في الفضاء الازرق، بحيث يتاح لهم قول ما يشاؤون وقت ما يشاؤون دون الحاجة إلى انتظار توقيتات محددة، وكذلك منحتهم هذه المساحة فرصة التمدد على القدر الذي يحبون، كما مكنهم الفضاء من عبور الاسوار والحدود، وهو ما وضعهم امام فرصة المقروء، سواء كان ذلك عبر التعرض الطوعي او التعرض القهري جراء ما يتم عرضه بين يديك دون اختيارك، وفي اتجاه ذي صلة، يكاد يتقعد كتقليد لممارسة رسمية ما صار يقدم من قبل الفاعلين في الفضاء العامين وخصوصا الساسة والقادة والحكوميين على شكل ” تغريدات”، وهي نحو من الكتابة المكثفة التي صارت ترقى إلى درجة الوثائق والبيانات الرسمية.
وسط هذا السيل من المكتوب المتضارب في مختلف الموضوعات وخصوصا فيما يتعلق بالازمات، تتزايد مشكلة القارئ السيء، الذي غادر فعل القراءة التقليدية، وصار يقرأ بقصد التأويل من أول لحظة، كما، ان بعض الصور لا تخلو من حالة (تأثير الشاب فيرتر)، فنحن أمام صور من التقمص المطور لمدلول ومفهوم الكتابة يزيد واقعنا تأزما.
هناك اتجاهان في تحديد الموقف الاسلم لإدارة الازمات، الاول يرى ضرورة اطلاع الجمهور على كل شيء، وبشكل مفصل، ووضع كل التفاصيل بين يديه أولا بأول، والاتجاه الثاني، يذهب الى ضرورة تسريب ما هو ضروري فقط وفي حدود ضيقة خشية ان يكون المعروض محلا للتأويل من قبل القراءات السيئة، ولكل منهج مرتكزاته ومقولاته.
دخلت على خط الازمة مشكلة اكثر تعقيدا تتمثل بالنص المحرف او المزيف او المتلاعب به، ويشمل هذا التحدي الصورة والفديو وكل اشكال المخرجات، والذي فرض قراءات سيئة لا من حيث القارئ بل من حيث ما يحمله النص من سوء، وربما يصبح التأويل المذموم في القراءة السيئة ممدوحا في هذا الموضع، اي نتمنى لو مارس القارئ مزيدا من التأويل غير المعرفي على النص المحرف او المتلاعب به، تجنبا لمعطيات مدلوله ومنطوقه ومحتواه.
نحن امام واقع يزداد تعقيدا، وفي ذات الوقت تتراجع فرص الاصلاح والاستجابة فيه، إذ يتطلب الامر اكثر من ثورة معرفية وفكرية واخلاقية وتربوية للسيطرة على هذا السيل الهادر من الازمات المتتالية.