الولايات المتحدة احتلت العراق 2003، حلّت الجيش العراقي وفككت أوصاله وأعادت تركيبه طائفياً ونصّبت عملاءها قادة لأهم قطاعاته المحاذية لمناطق النزاع العرقي والطائفي في الشمال الغربي..، وحولته إلى جيش (شيعي) بنسبة 94%، ولا تزيد فيه نسبة السنة على 2.4%، و2.6% من الأكراد، ثم حطمت وصهرت ما تبقى من الأسلحة الروسية التي امتلكها جيش صدام حسين، وكتير منها كان ما يزال "بشحمه".
الولايات المتحدة جهزت (جيشها) العراقي الجديد بأسلحة ومعدات وتجهيزات أمريكية، فيما انشغلت شركاتها الأمنية بتصفية وسجن معظم قادة عراق صدام، وأعلنت عجزها عن العثور على نائبه (عزت الدوري)، وبدأ إعلام الإرهاب الصهيو-وهابي يروج لهذا الدّوري على أنه يقود المقاومة في وجه الاحتلال الأمريكي وأنه يقود ما تبقى من حزب البعث العراقي وكلهم من الطائفة السنية، أما عملاؤها في بغداد من جوقة اتئلاف أحمد الجلبي، وقد اختارت معظمهم من الشيعة طبعاً لحسابات مستقلبية نرى مفاعليها اليوم، فقد قاموا بدورهم على أكمل وجه في إقامة الدنيا ولم يقعدوها بعد في دعوتهم "لاجتثاث البعث" وعصابة عزت الدوري الذي بدا للبعض كأنه المخلص من جحيم مهزلة الديمقراطية الأمريكية (الفرانكشتاينية) في العراق..
حان الوقت على ما يبدو بالنسبة للإدارة الأمريكية لإطلاق الخطة البديلة لتعويض فشلها في سوريا، دفعت عزت الدوري لإعلان تحالفه مع شيخ النقشبندية وجماعته ومع قطعان داعش وبهائم الوهابية.. وأوعزت لهم بالتوجه لاحتلال الموصل ونينوى والأنبار، كما أعطت الأوامر لعملائها قادة قطاعات الجيش العراقي في الموصل وغيرها فغادروا مواقعهم وتركوا الجنود لمصيرهم بين أيدي المهاجمين الذين نهبوا الأسلحة والمعدات الأمريكية من المستودعات والمعسكرات العراقية، وكما احتفظوا ببعضها لمحاربة الجيش العراقي، فقد نقلوا بعضها إلى سوريا لمحاربة الجيش السوري.
حالما دخل الحلف الداعشي إلى الموصل وبعض المواقع، أعلنوا نيّتهم للتوجه لاحتلال كركوك عاصمة النفط في شمال العراق، والمتنازع عليها بين البارزاني والحكومة المركزية في بغداد، وفيما بدا للعالم طبيعياً أن يرسل البارزاني قوات البيشمرغة لمواجهة الدواعش والدفاع عن كركوك، فقد أدرك المعنيون أن تحرك البيشمرغة هو بتنسيق مع الدواعش وأسيادهم لفرض واقع وضع يد أكراد التقسيم على كركوك ونفطها في ظل عجز حكومة بغداد عن فرض سيادتها على المنطقة، ولم تكن زيارة وزير الخارجية الأمريكي كيري إلى أربيل أمس سوى ترسيخ لمسألة تقسيم العراق، فقد بدت بمثابة اعتراف بدولة البارزاني، وحتى لو لم يقل كيري ذلك، فقد أكدت تأييده لموافقة البارزاني على إعلان إقليم سني في شمال العراق ليكون عازلاً بين أربيل وبغداد، ولا فرق إن كان هذا الإقليم السني في إطار داعش أو مستقلاً بذاته.
وعلى هامش التحليل.. نظراً لفشل الولايات المتحدة بالحصول على موافقة مجلس الأمن على البند السابع لإدخال (المعونات) بشكل مباشر إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الإرهابيين في سوريا، فقد بات من الممكن الآن ظهور الأسلحة الأمريكية بين أيدي الدواعش والنصر في سوريا وإدراجها على لائحة ما غنموه من الجيش العراقي مؤخراً.. وقد أعلن جون كيري أفندي وعده للمالكي بتزويد الجيش العراقي بما يلزمه من أسلحة ومعدات وتجهيزات للاستهلاك في معركته مع داعش..
لكن من جانب آخر، عبر كيري عن نوايا إدارته حيث خلال زيارة كيري لأربيل عبر البارزاني عن موافقته على قيام إقليم سني في العراق، ربما يحكمه طارق الهاشمي وإياد علاوي، بحيث يصبح هذا الإقليم السني فاصلاً (عربياً) بين كردستان البارزاني باقي العراق في الجنوب والشرق الذي سيصبح بشكل طبيعي إقليم شيعي يحكمه المالكي أو منا يشبهه، ويتحرر البارزاني من ضغوطات ما يسمى الحكومة المركزية في بغداد التي تطالبه بعدم التصرف بنفط كركوك دون إذن منها، وهو ما لم يأبه له البارزاني حيث تعاقد مع حليفه أردوغان في الشهر الماضي وباع لحسابه بثمن بخس نفط كركوك عبر مرفأ جيهان التركي إلى شركات الكيان الصهيوني التي ملأت وسائل الإعلام بالخبر لغايات لا تخفى على أحد في ظل الظروف الراهنة..
اللافت في الأمر أن البارزاني يدرك جيداً أنه لم ولن يمكنه فعلياً إعلان استقلال كردستانه النفطي كدولة مستقلة لأنه لا يملك بحراً أو جواً أو بر لنقل هذا النفط والتواصل مع العالم إلا من خلال تركيا أو إيران أو سوريا، كما أنه يتمتع بمركزية محلية في إدارة شؤون الإقليم في ظل الدستور العراقي (الأمريكي) الجديد، الأمر الذي ساعد البارزاني على التصرف بالإقليم كدولة مستقلة حين يشاء لدرجة أنه تمكن فعلاً من منع الجيش الوطني العراقي من الدخول إلى أراضي الإقليم، وعزز من تسليح البيشمرغة، ونازع بغداد على سلطتها على نفط كركوك التي سيطر عليها تماماً الآن بذريعة حمايتها من داعش.. وفي ذات الوقت في ظل هذا الدستور، أمكن له أن يفرض على حكومة بغداد تنفيذ التزاماتها (خصوصاً بموضوع الميزانية) تجاه الإقليم كلما لزم الأمر..
لم يتطلب الأمر الكثير من الذكاء الكردي للدخول في اللعبة الأمريكية الفركنشتاينية لإعادة هيكلة المنطقة، والتي إن نجحت في تكوين كيان داعشي يفصل سوريا عن العراق فإن هذه الكيان سوف يكون ممراً لنفط كركوك إلى الخليج الفارسي عبر الكويت التي ينوي الدواعش السيطرة عليها، أو إلى شركات نفط الكيان الصهيوني مباشرة عبر الأردن الذي سوف يصبح جزءاً من داعش في هذه الحالة حين يقف الصهاينة والغرب يضربون كفاً بكف وتابعون سقوط دميتهم في الأردن عبد الله بن توني، ويعلنون أن لا حول لهم ولا قوة..
على هذا النحو تم التمهيد لترسيخ تقسيم العراق حتى بات العديد من رموز السلطة المركزية فيه يعلنون من بغداد باستسلام، كما فعل عضو ائتلاف دولة القانون النائب العراقي (سامي العسكري) على قناة الميادين أمس، أنهم، ولا ندري إن كان عمداً أو عن يأساً، يتمنون على البارزاني إعلان دولته الكردية على الأقل للتخلص من أعباء التزاماتهم بالإقليم كمكوّن عراقي وعدم التزام قيادة هذا الإقليم بالحكومة المركزية في بغداد..
وفي ظل ما يجري بعد انطلاق قطعان الإرهاب خارج حدود سوريا، جدد الرئيس الأسد تعبيره عن موقف سوريا منذ بضعة أيام خلال ظهوره إعلامياً مع وفد كوريا الشمالية، الأمر الذي له دلالات لا تخفى على المراقبين، حيث أكد تحذيره للدول الداعمة للإرهاب من أن إرهابها سوف يرتدّ عاجلاً.. بينما تستمر القيادة السورية في محاربتها لهذا المخطط الفرنكشتايني بصبرٍ وصمتٍ وعنادٍ وتحدٍّ معوّلةً على صمود الشعب السوري وإصراره على صون كرامة الوطن وردع هذه الهجمة الصهيو-وهابية القذرة..
د. مضر بركات