يبدو جليًا أنّ الولايات المتحدة قرّرت إدخال تعديلاتٍ على استراتيجيتها التي أرساها باراك أوباما عندما تسلّم زمام الحكم، وهي الإستراتيجية التي صاغها على أنقاض استراتيجية جورج دبليو بوش العسكرية التي قامت على التدخل العسكري المباشر والإحتلال الذي مارسه في كل من افغانستان والعراق.
أتى أوباما ليقول للعرب وللعالم أنه سينسحب من المنطقة العربية عسكريًا ليتفرّغ للصين وروسيا في جنوب شرق آسيا، فهما العدو الإستراتيجي الأخطر على الولايات المتحدة ومستقبلها السياسي ومصالحها الإقتصادية وإستثماراتها الكبرى في اليابان وكوريا وماليزيا واندونيسيا وشرق آسيا عامةً واستثمارات النفط والغاز تحديدًا بشكلٍ أخصّ.
مع نشوب الأزمة السورية والدخول الأميركي على خط ما سمي "الثورة السورية"، بدا للولايات المتحدة أنّ الفرصة سانحة لإعادة صياغة المنطقة العربية عبر إسقاط سوريا خدمةً لحليفتها الإستراتيجية "إسرائيل"، ولحلفائها الخليجيين والأتراك الطامحين لقيادة المنطقة بعد تفتيتها بالتنسيق مع "إسرائيل". لكن الدخول الروسي بزخمٍ على الخط الصراع كان المفاجأة الأميركية التي لم تكن تتوقعها الولايات المتحدة، كانت الولايات المتحدة تدرك أنّ إيران وحلفاءها سيكونون داعمين للنظام السوري وهذا يمكن استيعابه بنظرها، أما أن تدخل روسيا بهذه القوة بأربع فيتوات في مجلس الأمن وتدريب وتسليح وإستشارات فهذا ما لم يكن متوقعًا.
عزّز الدخول الروسي على خط الأزمة السورية النفوذ الروسي في المنطقة، تجلّى ذلك بسلسلة تطوراتٍ في علاقاتها مع بعض دول المنطقة، ما دفع بالولايات المتحدة لإجراء اختبارٍ جدي لمدى الإلتزام الروسي حيال دمشق، فكانت لعبة إستخدام الكيماوي في الغوطة وإتهام النظام بذلك، الأمر الذي هيأ الظروف لمحاولة القضاء على النظام وحسم الأمور عسكريًا من جهة، واختبار جدية الموقف الروسي من جهةٍ أخرى، لكن النتائج أتت غير ما كان متوقعٍا، ترجم ذلك بمزيد من النفوذ الروسي.
قررت الولايات المتحدة مقاتلة روسيا في حديقتها الخلفية مباشرة في اوكرانيا؟ جرى افتعال الأزمة الأوكرانية، الخاصرة المؤلمة لروسيا، نظرًا للتاريخ والجغرافيا، ونظرًا للتداخل السياسي والإجتماعي والإقتصادي لا سيما الصناعي لروسيا، ونظرًا للموقع الإستراتيجي كمنفذ على البحر الأسود ومنه نحو المشرق العربي والمياه الدافئة التي طالما حلمت روسيا بالوصول اليها، اعتقدت الولايات المتحدة أنّ ذلك سيجبر موسكو على القبول بالمقايضة، كييف مقابل دمشق، رفضت روسيا ذلك وأصرّت على الورقتين معًا.
لجأت الولايات المتحدة لمحاصرة روسيا سياسيًا وإقتصاديًا عن طريق العقوبات، لكن ذلك لم يثنِ بوتين، فكان بارعًا في لعب أوراقه، عبر البريكس وشنغهاي، وتمكّن من إبطال مفاعيل المحاولات الأميركية.
وجدت الولايات المتحدة في حركة داعش في العراق الفرصة المؤاتية لإدخال تغيير على استراتيجيتها بالعودة لاحتواء المنطقة ومحاصرة النفوذ الروسي المتصاعد بعد فشل المحاولات الأخرى، الحل بنظرها يقضي بتوفير غطاء دولي عن طريق شرعية مجلس الأمن التي عجز جورج بوش عن توفيرها إبّان غزو العراق عام 2003، جرى تشكيل التحالف الدولي الذي تنبهت له كل من روسيا وايران، رفضتا الإنضمام اليه، لكن الولايات المتحدة تمكنت من خلال مشروع "محاربة داعش" من إسقاط نوري المالكي الذي كان يتوجه نحو روسيا تسليحًا وإقتصادًا، هي بذلك ربحت الجولة الأولى، وسجلت النقطة الأولى في انتصار خطتها لمحاصرة النفوذ الروسي، وتمكنت من قطع خطوط التعاون العراقي الروسي الذي كان قد استجاب فورًا وأرسل الطائرات والأسلحة للمالكي قبل سقوطه، هي استطاعت حتى الآن ضرب عدة عصافير بحجرٍ واحد، فقد قطعت التواصل بين محور المقاومة طهران ـ بغداد ـ دمشق، وهي الآن تحاول إعادة احتواء العراق عبر مشروع التحالف الدولي ضد داعش، وأكدت الإمساك بالورقة الكردية وإعادتها الى بيت الطاعة بعد أن أعلن البرزاني عن طموحاته بدولة كردية كانت قاب قوسين أو أدنى من الإعلان، فالدولة الكردية ورقة لن تستخدمها الولايات المتحدة قبل الإطمئنان الى أمرين:
الأول: التأكد من استيعاب المنطقة وإعادة إخضاعها لنفوذها، ولكن مجزأة هذه المرة.
الثانية: النجاح في القضاء على النفوذ الروسي.
لا شكّ أنّ مشروع الولايات المتحدة يتقاطع في أمكنة، ويتعارض في أمكنة أخرى مع المشروع التركي الأردوغاني الطامح لاستعادة المجد العثماني، والخائف من الورقة الكردية وانعكاساتها على الداخل التركي، لذلك يحاول اردوغان من خلال "الغنج" الذي يمارسه وازدواجية المواقف حيال داعش التي يطمح في توظيفها في مشروع تركي خاص، ابتزاز الولايات المتحدة والمطالبة بحصة في شمال سوريا.
تحاول الولايات المتحدة التي عادت الى المنطقة بشكلٍ شرعي تركيز ضرباتها داخل الأراضي السورية لبلوغ أحد أمرين:
الأول: ابتزاز الرئيس السوري بإعادة تدريب وتسليح "المعارضة المعتدلة"، وبالتلويح له بإمكانية استخدام الضربات ضد جيشه ومؤسساته تمهيدًا لإضعافه وربما إزاحته عن السلطة.
الثاني: إفهامه انها هي من يحاول القضاء على داعش وأنّ ذلك لن يكون من غير ثمن لإستدراجه لعقد الصفقة إذا ما تبين أنّ لديه القابلية.
بعض الصحف الأميركية تروّج لإمكانية الحوار مع الرئيس الأسد وتتحدث عن ضروراته، لكن الموقف السوري حتى الآن يعتمد الصمت الإيجابي، فهو لا يثق بالنوايا الأميركية من جهة، ولا يستطيع التملص من حلفائه في محور المقاومة كما من حليفه الروسي من جهةٍ أخرى، لذلك تبدو الصفقة التي تطمح اليها الولايات المتحدة صعبة المنال ما يؤذن بتطورات دراماتيكية مستقبلية لا يمكن التكهن بها وبنتائجها.
سلاب نيوز