بدأت أحلام أردوغان بإقامة ما يسمى «منطقة عازلة» بالتلاشي أو بالتراجع على أقل تقدير في الوقت الراهن، ولم ينتشله من تخبطه ويدعم أوهامه المريضة موقف نظيره في التهور والأطماع الرئيس الفرنسي هولاند المؤيد له في هذا الشأن، حيث فوجئ بموقف أمريكي غير مؤيد لم يكن يتوقعه بعد الطلب التركي الرسمي منذ مؤتمر جدة من واشنطن بالموافقة على «المنطقة العازلة» على امتداد الحدود السورية والعراقية مع تركيا، وفي الوقت عينه فضحت معارك عين العرب حجم العلاقات بينه وبين العصابات الإرهابية ولاسيما علاقته الوثيقة بتنظيم ما يسمى «داعش» ودعمه العسكري واللوجستي الكبير له لاجتياح عين العرب وإبادة سكانها وتهجيرهم ومنع أي مساعدة تأتيهم عبر الأراضي التركية، حيث حرك مدرعاته لإكمال حصار المدينة الحدودية لتتمكن منها عصابات «داعش» من جميع الجهات.
لقد ظن أردوغان أن قرار البرلمان التركي بإطلاق يده بدخول «التحالف الدولي» واستخدام الجيش التركي خارج الأراضي التركية سيحقق أحلامه بالوصول إلى عمق الأراضي السورية والعراقية وضم قسم من هذه الأراضي كمرحلة أولى لقيام «السلطنة العثمانية» الجديدة التي يحلم بها، لكنه وقع في شر أعماله، وانقلبت أحلامه وبالاً عليه عندما اشتعلت النيران خلف ظهره، واندلعت الاحتجاجات الشعبية في الداخل التركي التي خلّفت وراءها حتى الآن عشرات القتلى والجرحى، بينما بات الوضع الشعبي الرافض لسياسات حكومة أردوغان وداوود أوغلو مرشحاً للمزيد من الانفجار والتصعيد، واضعاً هذه الحكومة الحاضنة للإرهابيين بين نارين حارقتين النار السورية المشتعلة على الحدود ونار الداخل الملتهبة بقوة.
وبالفعل جاءت معركة عين العرب لتضع نيات التحالف الدولي وتركيا على المحك، وتكشف حقيقة السياسات المبيتة، فالمدينة الحدودية تقاتل منذ قرابة شهرين وحدها، وطائرات التحالف التي فعلت المستحيل لحماية أربيل العراقية من السقوط لا تحرك ساكناً، والقوات التركية البعيدة عشرات الأمتار تتخذ الإجراءات للتضييق على المقاتلين الأكراد الراغبين بالالتحاق للدفاع عن عين العرب.
لم يحسب أردوغان أن اتهامات بايدن قبل اعتذاره عنها سيليها موقف أمريكي معارض لإقامة «منطقة عازلة»، حيث كشف بايدن خلال استعراضه سياسة بلاده الخارجية في جامعة هارفارد، أن آلاف الإرهابيين «وصلوا إلى سورية عبر تركيا» بتواطؤ ودعم الحكومة التركية أثناء توليه رئاستها، وبقي يصب جل اهتمامه على تسويق خطته لإقامة «منطقة عازلة» أو «آمنة» في المناطق التي تسيطر عليها المجموعات الإرهابية الموالية له شمال سورية وحتى الحدود التركية – العراقية.
ورغم أن الموقف الأمريكي غير المؤيد حالياً على الأقل لإقامة «منطقة عازلة» يشوبه الغموض، وقد يتبدل وفق البازار السياسي للتحالف الذي تقوده أمريكا، لكنه ما من شك في أن أردوغان كان يعوّل كثيراً على الدعم الأمريكي لإقامة «منطقة عازلة» كان قد طالب بها منذ بداية الأحداث في سورية ،وهو يشعر الآن بأن إدارة أوباما خذلته بهذا القرار غير المؤيد، إن لم تكن قد وجهت له الصفعة الثانية بعد صفعة بايدن الأولى باتهام حكومته بدعم الإرهاب.. في حين أنها لم تأخذ بشروط حكومة أردوغان للانضمام إلى «التحالف» واعتمدت على السعودية و«جرجرت» تركيا ذيلياً لاتخاذ قرار بدخول التحالف مرغمة، فاكتملت العدة نظرياً وقانونياً بالقرارات الصادرة عن البرلمانات والحكومات.. فكان من ضمن السيناريوهات المتوقعة التي عملت عليها حكومة أردوغان- أوغلو أن يقوم الجيش التركي باسترداد عين العرب من «داعش» بعد سقوطها من يد الأكراد بيد «داعش»، بمسرحية عسكرية تشبه مسرحية خطف الرهائن الأتراك والإفراج عنهم من قبل «داعش»، ويكون ذلك بداية لتنفيذ «المنطقة العازلة» ولكن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر التركي، فجاء الموقف الأمريكي ليزيد من ارتياب حكومة حزب «العدالة والتنمية» اليوم من أهداف الأمريكيين بالعودة إلى الشرق الأوسط وكأنهم يريدون تغيير المعادلة، ولاسيما إذا انتصر الأكراد في تصديهم لـ«داعش».
الموقف الأمريكي غير المؤيد لـ«المنطقة العازلة» التي تسعى إليها حكومة أردوغان، إذا كان صادقاً، ربما يحشرها في الزاوية ويبدد حلم أردوغان العثماني بتوسيع إمبراطوريته الذي ما انفك يراوده منذ بداية الأزمة في سورية وقبلها، واشتغل كثيراً على تمهيد سبل تحقيقه، لكنه اصطدم بصمود سورية وحلفائها الذين أحبطوا كل مسعى لاستخدام ما يسمى «الحظر الجوي» فوق جزء من أراضيها، أو اللجوء إلى مسوغات الضربات الجوية كما في قصة «الكيماوي» حتى قدّم «داعش» الذي نما وترعرع تحت أنظار سيده التركي المسوغات العملية للحلم الأردوغاني.
افتضحت لعبة أردوغان وتعرت على حقيقتها أمام الجميع بمن فيهم حلفاؤه، فلو كان صادقاً في محاربة الإرهاب لما احتاج الأمر سوى إلى قرار بسيط بإغلاق الحدود التركية في وجه موجات الإرهابيين من كل أنحاء الدنيا المتدفقة يومياً إلى عمق الأراضي السورية، فبحسب خبراء عسكريين، إن أبسط البدهيات السياسية التي تجنب المنطقة والعالم برمته ويلات تهور أردوغان أن يغلق حدوده في وجه تسلل الإرهاب العابر للقارات نحو سورية ثم يترك لغيره مهمة دحر «داعش» وشقيقاتها.
لا ريب في أن المشكلة تكمن في عقلية أردوغان السلجوقية الذي يحلم ويعتقد أنه قادر على تمرير أطماعه مستفيداً من حاجة التحالف الدولي لموقع بلاده الجيوسياسي بالنسبة لسورية، متجاهلاً أنه بمجرد تفكيره في زج تركيا في حرب ضد سورية بدأ الغليان الشعبي في الداخل التركي يتصاعد، ما سيضع على الفور أردوغان ومستقبله السياسي على صفيح ساخن يحرق أحلامه المشوهة، فالجميع داخل تركيا وخارجها يعلمون أن التدخل البري للجيش التركي سيلاقي رداً صاعقاً من سورية لكونه عدواناً سافراً موصوفاً يزيد النار اشتعالاً بانسياق أردوغان وراء مغامرة حمقاء غير محسوبة النتائج قد تؤدي إلى حرب شاملة في المنطقة سيكون أول الخاسرين فيها والمحترقين بنيرانها.
|