زهرة يفوح عطرها عبر نفحات القلم
حاورها لنفحات القلم الزميل فؤاد حسن حسن
س 1 : من هي زهرة محمد أو زهرة الكوسى ?
ج – أنا إنسانة بسيطة جدًا وعفوية ، حنونة لدرجة البكاء ، ذات حساسية مفرطة تجاه الظلم والألم وكرامتي ، شديدة الملاحظة لدرجة مرهقة لي ولمن حولي .
خجولة في حياتي العامة ، وبعيدة عن الصخب والأضواء ، لكني لبوة شرسة تجاه الحق والحقيقة بشكل عام ، وبشكل خاص تجاه سورية وفلسطين ، وهنا ، لا أستطيع أن التميز بينهما في وجداني وعقلي وروحي ولم أفكر لحظة واحدة بالفرق بينهما .
هما وطن واحد في قلبي وثقافتي وتربيتي .
رومانسية جدًا في كينونتي الداخلية ، رغم غلبة العقل في حياتي العامة ، مما يدفعني لأنسى ( زهرة ) الحالمة ، إلا في لحظة كتابة الشعر ، عندها أتمرد عليه وأتوحد مع ذاتي .
س 2 : حدثينا عن زهرة الشاعرة والأديبة ..
ج : بدأت بوادر موهبتي في المرحلة الثانوية مع تأثري بالأدب العربي آنذاك ..بعد أن كنت أعشق الرسم في الإعدادية ..
كنت أكتب الشعر الموزون من شدة شغفي بالشعر العربي ، لكن أستاذ اللغة العربية دائمًا ينبهني لوجود كسر في تفعيلة ما وعليّ استبدال الكلمة بكلمة أخرى ليستقيم الوزن ..بينما كنت أتمسك بالكلمة التي كسرت الوزن لأن الصورة الشعرية ستفقد جمالها إن حذفتها ، فالصورة أهم من الوزن بالنسبة لي .
هذه الملاحظات المتكررة ، جعلت الأستاذ ينتبه لسيطرة موهبة الرسم داخلي ، وكيف أتقن الرسم بالكلمات صوري الشعرية ، وجهني يومها لكتابة المقالة الأدبية .
بدأت العمل بالمقالة الأدبية ذات الطابع السياسي في سن مبكرة بعد الثانوية ، كنت أنشر بمجلة الهدف وفي بعض الأحيان في مجلة الحرية ..لكن خلافي مع المسؤول الثقافي بمجلة الهدف آنذاك لتغيره أحد مقالاتي بحجة عدم مناسبتها لسياسة الجبهة ، جعلني أترك هذا اللون من الكتابة وأعود للشعر الذي يلح داخلي .
وجدت نفسي بشعر النثر حيث الصورة لا يمسها مقص الأوزان …وروحي تبقى حرّة لا تخضع لقيد أو تقليد ..
اشتغلت على نفسي كثيرًا وقرأت الكثير لأهذب هذا الخيار ضمن قنوات توصلني إلى ذاتي وما أريد .
كانت رحلة البناء متعبة وشاقة ..لكن يجب أن أكون أو لا أكون ، وما زلت أجاهد أن أكون !
س3 : بمن تأثرت من الأدباء ?
ج : طبعًا المتنبي الذي كان والدي من عشاقه ، اتخذته مدرسة في حياتي خاصة في قوله الشهير :
تكبر في عين الصغير صغارها ..وتصغر في عين العظيم العظام .
وابن زيدون ، محمود درويش ، البياتي ، وعشقت السياب وأدونيس طوطمي الأعلى ..ثم رامبو ولوركا بالتأكيد ..
أما الروايات والقصص ، لا أبالغ إن قلت لك قرأت لكل أدباء في العالمين العربي والغربي ، بدءًا فيكتور وانتهاء بمحمد شكري …وما زلت أقرأ كل مايصل تحت ناظري .
القراءة متعة حقيقية ، تعطينا ثقافة أخلاقية أنيقة ومعرفة عصية على الإنكسار .
س 4: ماذا أضافت الحرب الكونية على سورية وقضية فلسطين على مخزونك الثقافي ?
ج : الحرب على سورية كانت بمثابة انفجار حاد في تكويني وإعادة صياغتي من جديد ، اختلفت كل المفاهيم عندي ، واللغة ، والخطاب ، وطريقة التفكير ، والكتابة …
مثلاً : مخزون المفردات عندي لم يعد يعبّر عن الحالة الدامية التي آلمّت بسورية ولا طريقة الوصف ولا البوح ولا التصوير ..بت أغوص في عمق الجراح وأصرخ ، أبحث عن آلية تساعدني لأعبّر بها عن غضبي وحزني وصدمتي ، تكون بحجم هذه الكارثة التي خُطط لها منذ سقوط بغداد عام 2003 ، التي انعكست سلبًا على قضية فلسطين ، فالعلاقة بينهما طردية ، بحكم الجغرافيا والقومية التي تحملها سورية على عاتقها منذ الأزل ، باتت الأزمة تراكمية المواجع في الوجدان والعقل ، ومن الصعب لمثلي تحملها…أو تقبلها !
وجدت نفسي فجأة ، قادرة على كتابة القصة القصيرة ، واحتواء انفعالاتي بها وسخطي ، ومواكبة تطورات الوضع القاسي في هذه الحرب الظالمة تباعاً .
واليوم لي مجموعة قصصية تحت الطبع بعنوان ( خطايا الماء ) ، وهي الأولى ، وهذا لم يكن في الحسبان !
أما الشعر ، فأقول لك باختصار : لست راضية عما صدر لي قبل الأزمة السورية وصفقة القرن ، مقارنة بما كتبته أثناء الحرب في ديوان ( بلا آيام ) أو ديواني الجديد ( أنتَ ..ليست لك ) ، لم تتم طباعته بعد .
س 5 : لك سبع مجموعات شعرية ، هلا حدثتينا عنها بإيجاز .
ج : ديوان (عشق دمشقي ) هو طفلي الأول المدلل ، هو عبارة عن جدانيات طرية المنبت ، أبث فيه أحزاني لدمشق ..وشوقي لبلادي ، وأرجوها أن تأويني وتحضنني في غربتي ..لأني خائفة من المنفى .
أما البقية ( الطريق إليك ) و ( الحلم المسافر ) و( العبور إلى المنفى ) و ( بساط من جمر ) و ( أنين الرمال ) كلهم يدورون حول محاور : الوطن ، الغربة ، المنافي ، والمآسي الإنسانية .
لكن ديوان ( بلا آيام ) صدر خلال الحرب 2016 ، له طابع أخر ..فيه الفلسفة ، والنقد ، والشتم ، فيه وجع سورية وفلسطين ، بصياغة جديدة ولغة أعمق وأوسع من ذي قبل .
س 6 : ماذا عن كتابك ( قبة السماء ) الذي يتحدث عن سجن عسقلان في الأرض المحتلة ، وما أثر ارتباطك بقائد فلسطيني أسير هناك ، على شخصيتك وفكرك ?
ج : هذا الكتاب كان السبب بزواجي من ( ابراهيم سلامة ) نخلة عسقلان كما لقبه رفاقه هناك .
تعرفت عليه بقصد معرفة خفايا سجون الإحتلال من خلاله ومن خلال سمعته الوطنية الطيبة .
الكتاب عبارة عن مذكراته في السجن ، استخدمت فيه أسلوب الحوار من خلال سؤال وجواب ، ليتقبل القارئ موضوعه المؤلم والغزير، بسهولة .
وكانت المفاجأة الكبرى ، إذ اكتشفت أنه قائد ( غَيري ) يتحدث عن رفاقه ولا يتكلم عن نفسه آبدًا .
كنت أنتزع الإجابة منه انتزاعًا عندما أريد معرفة الكثير عنه ، والسبب يعود لقناعته المطلقة أنه أدى واجبه ولا داعي لتسليط الضوء عليه ، فكلهم سواء في الآسر .ج
لم يحدثني إلا عن كيفيية اعتقالة ومحاكمته ، بعد إلحاح .
أذكر من محاكمته ومن بين لائحة الإتهام العرضية ، اتهامه بدخول دولتهم بطريقة غير قانونية وأنه ارهابي مخرب .
أجابهم : هذا وطني ، والدخول إلى وطني لا يحتاج لموافقتكم ولا لأي اجراء قانوني منكم ، أنتم الدخلاء فيه ووجودكم مخالف لكل قوانين العالم .
انهالوا عليه بالضرب ، وصدر حكمهم 99 سنة مع مؤبد مدى الحياة ، وتم وضعه في زنزانة انفرادية حوالي عام ..مع ممارسة أقسى أنواع التعذيب النفسي والجسدي .
علمًا أنهم كانوا يعلنون في اذاعتهم عن مكافأة مجزية لمن يدل عليه ، أو يساعدهم بأي معلومة ترشدهم إليه .
قضى من حكمه ثلاثة عشر عامًا ..وخرج ضمن صفقة تبادل من قبل المجاهد أحمد جبريل .
الكتاب فيه تكثيف عالي من خلال إجاباته ..لا يتسع الحوار لذكر نقاطه المهمة ، لكن أنوّه أن أبو عرب ( ابراهيم سلامة ) كبر في سورية وتدرب فيها وكان يدخل الأرض المحتلة من سورية عبر غور الأردن .
أذكر هنا حادثة بسيطة – دونتها بالكتاب – في أيامه الأخيرة ونحن في مشفى أمية ، استقيظت باكرًا ولم أجده بالغرفة ، أسرعت أبحث عنه كالمجنونة فلم أجده ، عدت إلى الغرفة محاولة الإتصال به عبر الموبايل ، فإذا الموبايل يرن بالغرفة ..بدأت أجهش بالبكاء ..دقائق ..وأتى ، سألته : أين كنت ?
قال : كنت أسير بشوارع دمشق يازهرة ، الليل ساحر فيها رغم البرد ، لكن ، هل تعرفين ماذا اكتشفت في تأملاتي ? اكتشفت أن دمشق تشبه فلسطين في الليل ، خاصة عندما كنا نتسلل منها ونرى فلسطين مضاءة من بعيد ..ودمعت عيناه !!
قلت : يبدو قدر الجمال والكرامة واحد ..وأخفيت دموعي مع فنجان قهوتنا قبل الأخير !
أتحدث عن ابراهيم ليس بصفته زوجي آبدًا ، طبيعتي محايدة بمشاعري أمام الوطن وقضاياه ، بل بصفقه قضية كبيرة كما آسرانا هناك ، متفرد بتعنته لوطنه ، بزهده في الحياة والمناصب لأجل ذلك ، عاش فقيرًا ورحل كذلك ..
ينام ويصحو على جرح فلسطين ، والحرب على سورية فجر كل جراحاته القديمة من جديد ..
لقد حاولوا تصفيته في لبنان بعد حرب تموز بمساعدة بعض الخونة وفي الأزمة السورية ..كان يضحك ويقول : هذا قدرنا وعلينا أن نتحمل نتائج خياراتنا.
هذه المقولة من أهم ما تعلمته منه ..كما الوطن هو الحقيقة الثابتة ، ونحن إلى زوال إلا بحالة واحدة ، اختيار طريق النضال أو السقوط بلا قبر !
تأثرت بعناده تجاه المواقف الكبيرة التي لا تحتمل الرمادية ولا التأويل ، والمجاهرة بكلمة الحق كما أبي ، مهما كانت النتائج ..
ثقافته العالية والغزيرة جدًا في كل غالبية العلوم ، صقلتني ، ونضجت بسرعة معه وتبلورت معالم شخصيتي الضبابية بعد وفاة والدي الذي كنت أعشقه ، وكم كان يشبهه ومن جيله ، ربما هذا هو سبب قبولي الزواج به رغم فارق العمر .
دأب على كتابة الأدب الملتزم بقضيته والسجن والفقر ،
والنقد الساخر لما آلت إليه قضية فلسطين .
له : خمس مجموعات شعرية ، ومجموعة قصصية بعنوان ( نافذة في جدار قبر ) ، ورواية بعنوان ( غرباء ) .
لكن سياسة إقصاء الأدب المقاوم وتهميشه ، هي عنوان المرحلة ، كما يبدو ، مع طمس أسماء كل المناضلين والأدباء الملتزمين بلون دماء الشهداء وترابه كاملاً غير منقوص .
باختصار : تعلمت منه كيف أحيا ..تحت قبة السماء !
س 7 :
ج : المشهد الثقافي بالتأكيد تأثر سلبًا بالحرب الكونية على سورية ، كما كل مناحي الحياة فيها ، بل تجاوز أثر الحرب على كل المشاهد الثقافية وغيرها في الدول المجارة .
لقد تفشت ظاهرة كتّاب المقاهي والتسكع في الشوارع مع نشاط واضح للمطابع لمبتدئين ، يكتبون ولا يقرأون ، ولا يتقبلون النقد والتوجيه .
مثلاً : أصبحت قصيدة النثر ثرثرة فارغة بلا ضوابط ، والشعر الموزون نظمًا بلا شعر وشعور ..
في مجال القصة : أصبحت ذات ايقاعات سريعة بلا روافع أو موضوع جدي يلامس أوجاع الناس الغلابة .
لا يوجد مواهب حقيقية تنبع من معاناة أو أرض ثقافية خصبة ، ينطلق منها فكر معين ومبادئ عالية .
كأنهم يتسابقون مع الهواء وفي الهواء ، يلهثون إلى الشهرة والأضواء ، رغم أن النجاح يحتاج إلى تعب يفوق فرحنا به ، وإلى الكثير من الصبر والهدوء .
السؤال العاشر : ماذا بعد من كلمة تودين أن تقوليها ولم نقلها ?
ج : أود أن أشكركم من قلبي مع كل الحب الذي تستحقونه بجدارة ..كما سورية التي ولدت فيها وكبرت وأحببت وعشقت ، وهي الشاهد الأوفى والسبب الرئيسي في بقائي زهرة ..وحافظت على سلاح الحب الذي ننتصر به على كل أعدائنا مهما كانت قوتهم ..
أجل ، بالحب ننتصر ونتميز ،نبني وطنًا لا تقتلعه أعتى الأعاصير ..
وبالحب تتحرر فلسطين أيضًا ، ليتنا نتنازل عن (الآنا ) كما الشهداء ، ونفكر بأعراس البيادر وضحكة الزيتون ..فلنا في الشهداء أسوة حسنة ، يا أولي الألباب .
شكرًا سورية ..وبالنصر القريب ، بإذن الله ، نحتفل بعامنا الجديد ..سوية بكل وفاء .
أحبكم ..ولا تسألني لماذا ?
ببساطة… لا أعرف من أكون معكم وبينكم ..هل أنا من هناك معكم أم من هنا لهناك !
كل الشكر لنفحات القلم وللصديق الإعلامي فؤاد حسن
والأديبة منيرة أحمد…
فلسطينية الأصل مقيمة. في سوريا