بسام جبلاوي
شعَرَ ( اللبخة ) بضآلة نفسه ، وصغر حجمه ، عندما رأى قامته تتلاشى أمام درفتي الباب الخشبي الضخم ، المفتوح على مصراعيه من الجهة الغربية لجامع المغربي ، الذي تم تشييده في العام ١٢٥١ هجري ، ١٨٢٥ ميلادي ، حسبما قرأ اللبخة في المدونة المنقوشة على جدار المسجد ، مما دفعه إلى رسم أرقام وأعداد كثيرة بأصابعه في الفضاء ،ثم انهال في سره بشتم الاستعمار ونعته بأشنع الصفات ، ولما انتهى من لعن الاستعمار وذيوله التي تعد ولا تحصى ، مسح فمه بظهر كفه عدة مرات ومع كل مرة كان يتلمض رضابه الذي اختلط بطعم الليمون ، مما جعل لهواء الصباح المنعش نكهة لا تضاهى .
كان اللبخة ينتظر طلوع القوة ، التي خَرَّ أمامها وبهت طاغي الطغاة ، الملك ( نمرود ) ، عندما حاول أن يتحدى ( إبراهيم الخليل ) عليه السلام ، حينما قال الأخير : {{ .. فَإِنَّ الله يَأَتِي بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ المَغرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ }} .
بدأت شمس اليوم الوليد تنساب من خلف الغيوم الفضية وهي تطرح أشعتها الذهبية على درجات السلم الحجري الممتد برهبة لا تنكر من عتبة المسجد إلى الساحة الواسعة المتعددة الأسماء والألقاب ، ساحة القلعة أو ساحة المغربي ، ثم ساحة العيد ، وساحة الشهيد ( أدهم كنيفاتي ) .
لعل اللبخة دون غيره لم تأخذه رهبة الدرج المستلقي بجسده الطويل ، الجميل المهيب على صخور تلة القلعة ، التي حررها صلاح الدين من الافرنج ، يوم الجمعة ٢٢ تموز ١١٨٨ م ؛ مما ترك المجال مفتوحاً أمام اللبخة إلى لعن الاستعمار من جديد ، وهو يهبط على درجات السلم الحجري، درجة تلو أخرى ، بثقة لا تخفى .
فجأة راوده السؤال الذي أثار شجونه :
– كيف للشيخ الكفيف ، الامام عطية ، أن يصعد هذا الدرج ويهبط منه وحيداً .. !؟!؟
لم يمكث السؤال في ذهنه كثيراً مستذكراً ما حدثه والده بأنه كان دليل الشيخ مرة ، عندما اصطحبه بعد صلاة العشاء إلى بيته ، وفي منتصف الطريق انقطعت الكهرباء ، فاضطرب والد اللبخة كثيراً ، وهذا ما لم يخفَ على الشيخ الذي سأله عن سبب اضطرابه والذعر الذي أصابه ، فقال :
– لا أعرف كيف أسير ، لا أرى شيئاً ، لقد انقطعت الكهرباء وضاعت معالم الطريق .. !
قال الشيخ بهدوء لا يخلو من ثقة ، مخاطباً دليله :
– ولا يهمك سأكون دليلك إلى منزلك .
لم يتجاوز اللبخة ساحة حي القلعة ، التي بدت فارغة من كل شيء ، سوى قطة تموء قرب كومة من القمامة ، أدار اللبخة ظهره للبحر ، وراح يتأمل الإطلالة الساحرة لجامع النور ، كان صدره يلهج بأدعية وتوسلات مختلفة ، ولولا ما أثاره السلم الحجري بدرجاته الضخمة ، في نفسه ، لما انقطعت سلسلة الدعاء لديه ، وهو يحدق في الدرجات الحجرية وترتيبها الهندسي المتقن ، مستذكراً جملة من حكايا النذور التي نذرتها بعض الصبايا من أجل طلب أيديهن أو قدوم فارس أحلامهن ، وبعض النسوة اللاتي لم ينجبن ، أو سعياً أن يرزقهن الله بغلام بعد أن منحهن دستة من الإناث أو مايزيد عن نصف دزينة .
ولم ينسَ اللبخة حاله ، من الحبور ، الذي انتابه في العام الماضي ، حينما حمل عدداً من أرغفة الخبز ، منحها للمارة على هذا الدرج أو قربه ؛ وفاءً للنذر الذي نذرته جارتهم المرضعة ، التي شح حليبها ، وما ان علم من احدى العجائز المعتكفات على درج المغربي ، أن ( البطم ) من أكثر المواد المدرة للحليب عند المرضع ، سارع إلى محل( الشموط ) للبهارات والتوابل ، واشترى كمية كبيرة من البطم ، بمبلغ بخس .
شكرت صاحبة النذر ، الولي المغربي ، الذي اعتبرته شفيعاً لها في إرضاع أغلب أبناء المدينة .
وتعددت النذور وطرائقها على هذا الدرج مما أثار لغطاً بين أبناء الحي ، وهذا ما لم يعره اللبخة اهتماماً فنذر لنفسه أن يكنس هذا الدرج مرتين ، احداهما بمقشة خشنة ، وبمكنسة ناعمة في الأخرى ، حال تلقى نبأ نجاحه في البكالوريا .
شغل الدرج حيزاً واسعاً من فكر اللبخة وتفكيره ، فراح يتأمله من جديد وهو يخاطب نفسه :
– قد يقترب عدد درجات هذا السلم من مئة ولكنه لا يتجاوزها .
صمم اللبخة قطع الشك باليقين ، وبدأ في تسلق درجات السلم من جديد ، ولم يكن هبوطها أقسى من صعودها عليه .
وما أن عاد إلى الساحة المستديرة ، رفع وجهه نحو السماء بعد أن أودع يديه كطفلين صغيرين في جيبي بنطاله ، وكأن شيئاً لمع في داخله فأبرق خاطره ، وعيناه ما زالتا مثبتتان ببصرهما في السماء الذي انقشع غيمها وظهرت وكأنها صفحة من فيروز .
رفع اللبخة ساعديه حذاء صدره ثم بسط كفيه متضرعاً :
– رباه .. ! شكراً لك يا إلهي ، أن تمنحني عمراً قدره / ٨٥ / خمسة وثمانون عاماً ، اللهم لك الشكر .. {{ رَبٍِ أَوزِعني أَنْ أَشكُرَ نِعمَتكَ الَّتِي أَنعَمتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعَمَلَ صَالِحاً تَرضَاهُ }} . ….. / للحديث تتمة
– اللاذقية ١٨ / ٩ / ٢٠٢٠