الحلقات الأخيرة من فصل يشكل رواية خصنا بها المستشار محمد أبو زيد – مصر
10
لن تستطيع أن ترى الإنفتاح الإقتصادى على حقيقته إلا إذا عشت ببورسعيد فى سبعينات القرن الماضى ..فببورسعيد تستطيع ان ترى مصرا وقد جردوها عنوة من ثياب العفة التى ألبسها إياها ناصر ..فتفكيك مصر بدأ من بورسعيد التى افقدوها رمزيتها التاريخية ، وموقعها المتقدم فى مضمار المقاومة والصمود ..فالإنفتاح الإقتصادى حول بورسعيد إلى مدينة ضائعة فقدت ملامحها ، وأستفرد بها الخارجون على القانون والبلطجية والصراصير وكافة الحشرات الآتية من مجارير التاريخ ..لقد أختاروا بورسعيد بعناية شديدة لرسم ملامح مصر المستسلمة الفاقدة لوعيها وإدراكها …حكى لى المعلم عبده سليم انه كان فى سنوات الهجرة بمدينة المطرية بمحافظة الدقهلية يقلب ياقة القميص اكثر من مرة لانه لا يستطيع ان يشترى قميصا جديدا ..وبعد سنوات لا تجاوز الاربعة اصبح يمتلك شارعا بكل بناياته …حتى انه ذات مرة سأل احد الأشخاص وهو يهم بدخول الشارع لماذا يمشى فى شارعه ..وفى يوم ورديته كان يصر على اصطحابى لبيته بعد غلق المقهى …ثراء يتم التعبير عنه بشكل مضحك ..هكذاء كنت ارى ديكورات بنايته وشقته ، والاثاث ..لقد اصبح ثريا ..لكنه عاجز عن إستيعاب هذا الثراء ..وعاجز عن التعبير عنه بشكل بناء ..فهذه الشرائح الإجتماعية التى طفت على قمة البناء الإجتماعى بمصر قد جاءت بثقافتها الغير بناءة والحاملة لفيروس إسقاط مصر ..جاءت بمفردات لغتها ، بمنظومة قيمها ، بفنانيها ( عدوية وكتكوت الامير وحمدى باتشان مطرب الاساتوك …وغيرهم ) ، جاءت بمسرحها ، وبفنها السابع ..المعلم عبده سليم يدخن الحشيش من الجوزة الخاصة به ، وعلى الارض تجلس زوجته المتساوية الأضلاع والتى ترتدى بضعة كيلوجرامات من الذهب ..يحدثنى بفخر عن كفاحه حتى اصبح اكبر تاجر أفيون …وعن مغامراته مع الشرطة ..وعن أملاكه ..تأتى إبنته ( نصرة ) من زوجته القديمة ..تحضر لأبيها زجاجة الويسكى ..فطبيعى ان تكون حياة ابيها محكومة بالمثل المصرى : سمك ..لبن ..تمر هندى …وبالإضافة للحشيش والافيون والخمور ، كان المعلم عبده يتعاطى حبوب الهلوسة .. كنت ادرسه بهدوء ..وبأناة …وكان يعتقد ان هدوئى وإصغائى بعمق لما يقول هو إعجاب به ، وبتجربته الخصبة فى الحياة ..وكان يمتدحنى احيانا ويقول انه متأكد ان مستقبلى كبير .. وعندما احس اننى غير مستريح للإقامة لدى خالاتى اعطانى شقة بعمارته وكانت مؤثثة بشكل كامل ..لكن ومنذ فوجئت بزوجته وهى تدخل غرفة نومى ( كان لديها مفتاح للشقة ) مرتدية قميص نوم وملامحها اشبه بحاملة طائرات قررت العودة للحياة مع خالاتى رغم ان تلك السيدة قدمت لى إغراءات ، بل وتطمينات بأن زوجها لو دخل علينا فلن يستطع فعل شئ لأنها تستطيع ان تحبسه ، ولانه فاقد للرجولة .
يوم السادس من اكتوبر ١٩٨١ كنت بالمقهى وكنا نشاهد العرض العسكرى الذى اغتيل به السادات ..لم تخفى إبتهاجى بمقتله ، لكنى فوجئت بحالة حزن عارم لدى الجميع ..ولم لا فهو أباهم الروحى ورب نعمتهم
نسيت ان اقول اننى قبل ذلك بفترة شاهدت فرحا بالشارع بمناسبة نجاح ابن زعيم البلطجية وفتوة بورسعيد الأول ( الأسمر السمانة ) الحضور كانوا عدة آلاف يتقدمهم كل تجار بورسعيد الكبار ، وكل مطربى بورسعيد ..وشاهدت ذلك الرجل يجلس بشكل إمبراطورى محاطا بأتباعه وما اكثرهم ..وكان إبن خالتى جمال احد هؤلاء الأتباع ..وقد انتهت حياته بشمة هيروين زائدة ووجدوه ميتا بالشارع .
وفى طريق عودتى للاسكندرية تم القبض علي بمنفذ الجميل ..وذلك عندما شك في رجال الجمرك لإحتواء حقائبى على كتب سياسية ..وهو الموقف الذى تكرر فى منفذ الرويشد بالأردن بعدها بسنوات ..وعلى الفور جاء رجال مباحث امن الدولة وأكتشفوا اننى ذلك الشخص الذى يبحثون عنه منذ عام
11
قالت لى وقد زاغ بصرها فى البعيد :
والدى كان من قيادات الإخوان المسلمين الذين حبسهم عبدالناصر ..كنت محظوظة فقد ربتنى خالتى فصرت الوحيدة التى أكملت تعليمها من بين جميع أخوتى …تعلمت على يدى خالتى فن الإختيار ..وكى اختار لا بد ان اكون ملمة بكل شئ ..بالمخالفة للمنطق لم اكره عبدالناصر ..أحب ابى ..واحترمه جدا ..لكنى اختلف معه والحقيقة هو لا يغضب بل يكون سعيدا بخلافى معه وإختلافى عنه ..
هى اقوى وأصدق وأطهر من التقيت فى حياتى ..أقتحمت خلوتى فى حديقة الكلية حيث كنت اجلس …. ظهرى للكلية ووجهى للبحر وبيدى كتبى الثقافية ..قالت لى : عندى فضول ان اعرفك ..شاهدتك اكثر من مرة …عاداتك لا تتغير ..إستغراقك فى القراءة مثير للفضول ..من انت ؟ وما حكايتك ؟ ..سألتنى وهى تتصفح الكتب الموضوعة الى جانبى ..
ضحكت وقلت لها : تذكرينى بقصيدة لسميح القاسم ..
_ من أين انت ؟
_ انا من بلاد الله جئت ابحث عنه فى بلد غريب ..
_ وإذا عثرت عليه ؟
_ ارويك قصتى …
لم استطع الإكمال فهذا ما جادت به الذاكرة ..لكن أسئلتها لم تتوقف …استوقفنى شغفها بمعرفتى ..فرويت لها حكايتى كلها …
شاركتنى فى إصدار مجلة الحائط وفى كتابة اكثر من نسخة من العدد لزوم تحدى الأمن الجامعى الذى كان يقف بالمرصاد لما اكتبه ..وحاولوا ابعادها عنى بتخويفها من تجربتى بكلية الهندسة فقالت لهم : سأظل بجانبه حتى لو بعنا سندوتشات على ابواب الكلية …
وعندما ضاقوا بنا ذرعا لفقوا لنا تهمة قذرة وهى القيام بفعل فاضح مناف للآداب بالكلية .. وفى مجلس التأديب علمتهم الادب حتى ان الدكتور الذى حقق معنا قد اعتذر لنا بشدة واوصى بإبعاد ضباط الامن الذين لفقوا لنا التهمة عن الجامعة …كانت تسكن فى منطقة جناكليس بشرق الاسكندرية وكنت اقوم بتوصيلها سيرا على الاقدام ..لمسافة تتجاوز العشرة كيلو مترات ..أخطأت مرة فى تصرف امام الزملاء ففوجئت بنفسى اصفعها على وجهها ..احتج بعض الزملاء فقالت لهم : هو الوحيد فى العالم الذى له حق تأديبى ، وانا امامكم اطلب منه ان يصفعنى كلما تجاوزت او أخطأت ولو كنا داخل المدرج …
لكنها وبعد عامين صارحتنى بأن ظروف بيتها لا تسمح لها بإكمال دراستها ..وانهم يلحون عليها بالزواج من رجل ظروفه جيدة وان هذا الزواج سيحسن الوضع المادى السئ لأسرتها … وانها تملك ما تضحى به لأجل تلك الأسرة التعيسة ..بكت بحرقة ..ثم ودعتنى ..وللأبد.
لم اكن احضر سوى محاضرة وحيدة اسبوعيا لدكتور الاقتصاد السياسى ..فهذا الرجل العظيم كانت تسعده مناقشاتى ..اذكر فى إحدى المرات ان هتف بعض الطلاب الجالسين فى نهاية المدرج طالبين منى الجلوس والتوقف عن المناقشات التى تضيع عليهم وقت المحاضرة ، فما كان منه إلا ان قال عبارة لم أنساها طوال عمرى : إذا كان هناك قهر وقمع فى البلد خارج المدرج …فلن أسمح له بأن يمتد إلى داخل المدرج … هذه المناقشات وهذا الرجل العظيم كان لها بصمة عميقة على حياتى وعلى فكرى….
12
أحبينى ..ولكن إحذرى أن يغزوك وهم إمتلاكى ..فأنا ضد الملكية بصورها ..وقد بحثت طويلا بعيدا عن الكتابات الماركسية الجاهزة عن الملكية ، عن صور الملكية المختلفة عبر التاريخ ، ومتى عرف الملكية بشكلها الراهن .. تربطنى بك كمياء ، ترجمتها المشاعر ، وتولى العقد رسم إطارها الإجتماعى والقانونى ..
أحبينى ولا تتحولى إلى رجل أمن قمعى يفتش فى رأسى وفى جيوبى وبين طيات اوراقى عن دليل لعدم الولاء ..او عدم الوفاء ..هذا العقد الذى ابرمناه برضائية ، وحسن نية ، هو مصدر إلتزاماتنا الإجتماعية بكل جوانبها ..هكذا أجبت على سؤالها بعد أن اغلقنا على أنفسنا باب مسكن الزوجية فى ليلة الزفاف : بماذا تنصحنى كى تدوم علاقتنا للأبد ؟ …
أؤمن بالتفسير المادى للتاريخ ، والأحداث ..وان العلاقات الإنسانية أيضا يمكن إيجاد تفسير لها بذات المنهجية ..عندما كنت أقوم بدراسة القبائل الافريقية فى جنوب السودان سألنى مشرفى العالم الكبير : لماذا يتزوج زعماء القبائل الأفريقية بعدد لا نهائى من الزوجات ؟ …كان لا بد ان ابحث وأجد إجابة كى لا يعيد مشرفى على مسامعى عبارتة الأثيرة : العالم يسأل ولا يجيب …قرأت قصة حياة دينق مجوك زعيم قبيلة دينكا مجوك الذى عاش فى منطقة ابيي الغنية بالنفط حاليا والمتنازع عليها بين شمال السودان وجنوبه ..تزوج مجوك من ٤٠٠ إمرأة ..لأن قوام القوة العاملة فى مجال الزراعة لدى القبائل الافريقية هو للنساء .. بينما يقوم الرجال بحرفة الرعى ..وعندما يتزوج بهذا العدد الكبير فإنه يتمكن من الأستحواز على الجزء الاكبر من الفائض الإقتصادى الذى يؤكد زعامته للقبيلة ..
هذه الاستاذة الجامعية الحاصلة على درجة الدكتوراة فى الادب الإنجليزى من إنجلترا كانت تعتقد اننى سأستعين براتبها إلى جانب دخلى للإنفاق على متطلباتنا الحياتية ..ومقابل ذلك يكون لها الحق فى هامش حرية إستثنائية كمقابلة صديقاتها مرة اسبوعيا فى صالة ديسكو ..او إشتراط الخروج ثلاثة مرات اسبوعيا ، وعدم دخول المطبخ إلا مرتين اسبوعيا ..عطاء جنسى بلا حدود …وخواء فكرى وروحى لا محدود …المساواة تفترض النضج ..والوعى ..وليس التعسف فى إستعمال حقوقها كزوجة …كانت افكارى التقدمية تروقها وتبهرها قبل الزواج …ويبدو ان ذلك عند بعض الرجال والنساء على السواء نوع من أدب الصيادين …وداعة تامة إلى حين التأكد من إبتلاع السمكة للطعم .. ثم يتحول إلى وحش للإمساك بها …
سألتها : غير السرير ماالذى يربطنا ؟ …
_ ولماذا يتزوج الناس … أليس من أجلك علاقة جنسية منظمة
_ هذه علاقة حيوانات لا شغل لها سوى إشباع غريزتها . .
_ السنا حيوانات ناطقة ؟
_ الحيوانات تنطق ، ولها لغات تتعامل بها فيما بينها ..أما الإنسان فأرقى من ذلك بكثير
_ هل لديك شك فى رقيي ؟
_ انتى جاهلة ومتخلفة .. هل تسمين نمط الحياة المنحل لك ولصديقاتك رقي ..تجاهلك ورفضك لأنماط حياة الانثى السوية ، وتقليدك الأعمى للغرب هو قمة التخلف .
بعد الزواج بأيام شعرت بالنفور منها .. كان اصدقائى يحسدونى عليها …جميلة جدا ..وانيقة جدا ..وتمتلك جسدا رائعا …لكن مقاييس الانوثة عندى تبدأ من عقل المرأة وثقافتها ..وتمر بلسانها ..فأنا اكره الانثى سليطة اللسان وأعتبر سلاطة اللسان مرضا خبيثا لا علاج له ..
ثمانية واربعون يوما دام زواجى منها ..تنازلت لها عن الشقة بمقتنياتها مقابل مؤخر الصداق وحقوق الزوجية المترتبة على الطلاق …
حملت حقيبتى وتوجهت إلى الفندق لأبدأ حياة جديدة ….
13
بعد العشى مفيش إختشى .. هكذا كان يردد وهو يضع زجاجة الويسكى على مائدته ببيته بعد ان انتهى من صلاة التراويح ..وبعد قليل ستحضر لديه فتاتان من الشكش ( الأسم الذى يطلق على الساقطات بالسودان ) .. لكنه وقبل السحور بساعة يتوقف عن الشراب ، ويغتسل ، وينوى الصيام . وعندما دعانى ليلة للسهر فى نادى ليلى وكان مديره يعرفنى ..غنوا له اغنية سيد خليفة الشهيرة ..إزيكن ..كيف إنكن ..انا لي زمان ماشفتكن .. فصعد إلى خشبة المسرح ورقص مع الراقصة ، والقى عليها بمبالغ ضخمة ..لكنى استدعيت مدير المحل وقلت له هذا الرجل دبلوماسى سودانى ومنعا للمشاكل خذوا عشرة بالمائة وأعيدوا الباقى .
هو استاذ دكتور فى علم الإقتصاد ، ووزير سابق ..وينتمى لقبيلة كبيرة تسمى الشايقية اسست فى القرن الثامن عشر مملكتها الخاصة ..ورغم انه إفريقى على نحو ساطع إلا انه يجزم بأنه عربى ..والحقيقة أنه كان إفريقى الوعى والفكر .. وعربى السلوك والتصرفات ..
سألته مرة : لماذا تتصرف بعدوانية مع ذاتك يا دكتور ؟ .. اجابنى بمرارة : الشعور بضياع الوطن وإختطافه يفقدك توازنك ..
قال لى يوما الديبلوماسى الرقيق والمذيع فى راديو ال BBC الدكتور على أبوسن : أمتلك فى بلدكم بيت بالقاهرة وآخر بالأسكندرية ، وعندى مال وفير ..لكنى ضائع ..منفى .. التعاسة الحقيقية ان تعيش حياة المنافى …العالم بأسره لا يساوى قريتى …
بشارع فؤاد بالقاهرة هناك مقهى اسمه ( جيجى ) .. جل رواده سودانيين …فى هذا المقهى تستطيع ان تجد اى سودانى تبحث عنه فى القاهرة ..لم ابذل مجهود يذكر للعثور على من دلنى على الشقة التى يقطن بها صلاح .. صديقى اللدود ..استقبلنى بحفاوة ومعه رهط من السودانيين ، الشقة خاوية .. لا مأكل . لا شراب ..لاشئ سوى عيون تعلقت بهذا الزائر الذى يبدو ان صديقى اعطاهم فكرة عن كرمى …أحدهم طلب منى بعد ان تناول العشاء .. وشرب من العرق الكثير .. ان يستشيرنى فى أمر خاص .. قدم لى نفسه بأنه عبدالرحمن ..وقد عمل كمرتزق فى الجيش الشعبى العراقى .. وفى الجيش الكويتى ..يحب سودانية تدير منزلا للدعارة .. يعشقها بهوس ..سألنى سؤالا محددا : من اكثرنا دعارة ..أنا ام هي ؟ ..هي نامت مع الرجال بسبب ظروف النفى والبعد عن الأهل …وانا قتلت من اجل المال ..بدون قضية ..حلوها يا مثقفين إذا عرفتم تحلوها .. قال لى بمرارة …تدخل صديقى فى النقاش وقال له مداعبا : تريد ان تتزوج شكش ؟ .. فأنفجر فى وجهه : أنتم الساقطون ..لقد أصبحت ساقطة واصبحت مرتزقا بسببكم …بسبب خيبتكم .. لقد ضاع السودان بسبب غبائكم .. وغروركم …لا تعايرونا ..نحن نكرهكم …نكره تعاليكم .. وموت ضمائركم …ثم بكى بمرارة …ضممته لصدرى واشرت لصديقى ان يتوقف .
لم ارها سوى مرة واحدة حين زارتنى بصحبة رئيس تحرير جريدة الايام السودانية سابقا ..ولم ترتسم ملامحها فى ذاكرتى …سألتها من حضرتك عندما دقت جرس بابى الساعة السابعة صباحا وفى طقس مطير وبارد …كانت فى حالة نفسية سيئة للغاية ..أنا مهددة بالطرد من شقتى ومعى اولادى إذا لم أسدد الإيجار ..انتظر تحويلا من الخارج لكنه تأخر .. لم نأكل منذ يومين ..أعطى اولادى ماء بسكر كى لا ينهاروا …اخذتها الى مطبخ بيتى وفتحت لها الفريزر : خذى كل هذه الأطعمة المجمدة ..لا تتركى شيئا .. وخذى المتاح الآن وهو يغطى إيجارك ويزيد …بكت بمرارة ..فقد كانت اول سيدة من جنوب السودان تدخل البرلمان ايام نميرى ..
فى الإستفتاء على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان فوجئت بأن سكرتيرتى السابقة ..إبنة قبيلة الدينكا الجنوبية …وصاحبة الإطروحات العميقة حول السودان الواحد ..السودان الجديد ..وإبنه الجنرال فى جيش السودان ..تتولى عملا مرموقا فى المفوضية العليا للإنتخابات التى اسفرت عن الإنفصال ..
يومها رقص البشير ..
ورقص ابناء الجنوب
وبكى الوطن …
14
جلست بجوارى فى حديقة كلية الهندسة بالأسكندرية وبعد ان القت علي التحية ..سألتنى : ماعلاقتك بفيروز ؟ ..قلت لها : لا احبها ..ولا أطيق سماع صوتها ..ملامح الصدمة كست وجهها ..كيف تكون مثقفا ولا تحب فيروز ؟ ..كيف وكيف والف ألف كيف ..سألتنى ، وتسائلت ..قلت لها : لا تفرضى علي ذوقك الخاص ..قاطعتنى ..اقرأ مجلة الحائط التى تصدرها عدة مرات ..وسمعتك تتحدث فى إجتماعات الاسرة ، وتعجبنى شجاعتك وثقافتك ..لهذا اسمح لنفسى بتنبيهك للقصور المعرفى الخطير ..فأن لا تحب فيروز ..معناها انك غير مثقف ..
كانت هالة السادات وهذا اسمها وهي سعودية من جهة الاب وأمها مصرية من دمياط ، مجنونة بفيروز إلى حد انها كانت تقص شعرها وتصففه لتبدو ملامحها النحيلة قريبة الشبه لفيروز …
وفى اليوم التالى أحضرت لى كاسيت صغير ، وشرائط لفيروز من ضمنهم حفلة سبتمبر ١٩٧٦ ولم يكن قد مضى عليها اكثر من شهرين …
وعندما حضرت فيروز لمصر للمرة الأخيرة عام ١٩٨٩ واقامت حفلتها الشهيرة بمسرح الصوت والضوء بالهرم ، دفعت مبلغا كبيرا للحصول على تذكرة ونجحت فى الحصول عليها وحضور الحفل ..وقد هالنى ان ألتقيت شبابا وصبايا قادمين من فلسطين المحتلة وقد مكثوا فى الطريق عدة ايام ليحظوا بشرف رؤية السيدة فيروز …
وعندما اقمت ببيروت خلال السنوات من ٢٠١١ حتى ٢٠١٥ كنت اذهب إلى منطقة البربير وبها باعة متخصصون فى طبع اى اسطوانات مهما كانت ندرتها وقد استطعت إقتناء كل مسرحياتها الغنائية كاملة ، وحفلاتها …اما اغانيها فعندى ترسانة ضخمة من اشرطتها وإسطواناتها …
انتهزت فرصة وجود عمى الشيخ إمام بالأسكندرية ودعوته لبيتى ..ومعه بطانته بعد ان أخبرت قرينه محمد على أن المسائل كلها ستكون جاهزة ومن صنف جيد ههههه
وبعد ان تناول عمى الشيخ عشاءه ، وحبس بنفسين معتبرين ..وشرب القرفة بالزنجبيل ..أمتشق عوده وغنى كما لم يغن فى حياته ..سجلت هذه الامسية الاسطورية فى اشرطة كاسيت ..لكن احد اولاد الحرام هواة سرقة الكتب والاشرطة لطشها منى ولم يعدها …
الساعة تركض ..وعندى جلسة ….سلاااااااااااام
15
عندما دعانى إلى بيته بقريته التى لاتبعد عن سوهاج سوى كيلومترات قليله ، فوجئت به يدعونى لمشاهدة ( الزريبة ) بالطابق الأرضى ..لم أجد بها مواشى وإنما أعداد كبيرة من الأجولة المتراصة بإنتظام .. تخيلت فى بادئ الأمر أنها تحوى علف للمواشى ..لكنه قام بفتح احد الأجولة فوجدته مكدسا بالنقود ..قال لى وهو يضحك ويمسك بلحيته الطويلة : إنها عدة الشغل ..ليكون جاهزا لشراء أى شئ يحتاج صاحبه لبيعه إستجابه لظروف طارئه ..ولأن نقوده حاضره وجاهزة فإنه متمرس فى الشراء بأبخس الأثمان …
هذا السلفى الملتزم جدا بكل شكيات الدين ، فيطلق لحيته ، ولا يدخن ، وعندما حضر حفل زفافى على جيهان بفندق سيسيل بالأسكندرية جلس بطريقة ملفتة للجميع ، حيث اعطى ظهره للمسرح كى لا يشاهد الراقصات والمغنيات .. لكنه يقرض من البنوك بفوائد ربوية وتكبد مبالغ كبيرة لإستحضار محامى من الأسكندرية كى يؤخر السداد إلى أطول مدى ممكن ..وليس لديه اى مانع من دفع أى مبلغ لقاضى فاسد إن وجد ليقضى لصالحه .. لديه سلسلة مصانع للأعلاف ، ويمتلك مساحات واسعة من الاراضى ، بل ويملك جبلا وأسماه بإسمه ..إشترى محلجا للقطن فى ظل هوجه الخصخصة ..ودفع جزء من ثمنه على هيئة شيكات وطلب منى أن أؤجل له السداد بكل السبل القانونية إلى ان يتمكن من تقطيع ارض المحلج وبيعها . كان يحكى لى عن عمله بالسعودية وبأنه مدين للوهابية بهدايته ..وكنت اداعبه ضاحكا ..ليست هداية يا عم الشيخ ..النصب الشرعى تقصد ..وكان يضحك ويقول لى : بلاش فضايح يا باشا .
وفى يقينى ان الدور الذى لعبته الوهابية فى إفراغ المجتمع المصرى من محتواه كان اكثر عمقا وتأثيرا من دور الحركة الصهيونية عقب كامب ديفيد ، لكنهما تكاملا وتعاضدا ، لوحدة الهدف …اتذكر منذ سنوات ليس بالطويلة ، زارنى بمكتبى محامى سعودى من جدة بصحبة موكله السعودى صاحب توكيل بيع قطع عيار الاباتشى والأف ١٦ ..فقد قال لى : للوهابية ثأر مع مصر ، ولن تتركه إلا بطرحها أرضا ..لهذا كان مفهوما تلك الأموال الطائلة التى كانت تدفع للفنانات والفنانين فى ظل هوجة الإعتزال ..فضرب مصر فى كل مناجى تفوقها ..يحقق المطلوب .
بمحلات البقالة الكبرى التى أصبحت تسمى super market إذا سألته عن سجائر يجيبك وقد علت وجهه إمارات التقوى : الحمد لله رب العالمين ..ربنا يتوب عليك .. لكنه يرفع الأسعار كيف يشاء .. ويغش فى البضائع ، وفى الميزان ..ويرتكب كل الموبقات ..المهم انه يرتدى جلبابه الابيض ويطلق لحيته ، ويتباهى بأنه قد حج عدة مرات ..ولا يبيع السجائر .
وعندما علم عمى الشيخ أننى اقيم بفندق يملكه اقباط غضب بشدة ..التعامل مع هؤلاء حرام شرعا ..قال لى ، وفى اليوم التالى أستأجر لى شقة فاخرة وسط جيران مسلمين جدا ..
أما صديقى صاحب القرية السياحية بالغردقة والذى يحمل فى حقيبته عشرات العقود العرفية على بياض ( كان يطلب من احد موظفيه ان يوقع مكانه ) ويتزوج بعشرات الفتيات المخدوعات فى ملمحه الاوربى وكونه صاحب قرية سياحية وسلسلة مطاعم ..لكنهن بعد فوات الاوان يكتشفن الحقيقة المرة ..وبأنهن سيتهمن بالتزوير إن تكلمن ..فالعقد مزور لأن الزوج لم يوقع عليه ..وقد حدث ان أنجب منهن طفلا يبلغ عمره الآن ١٦ سنة ويرفض الإعتراف به حتى الآن ..يتفاخر بأنه تربية عوالم فعمته الاسطى عطيات كانت تملك ملهى الاجلون بالاسكندرية وقد طبق صيته الآفاق …ولم يجد أدنى غضاضة فى معاشرة إبنة خالته التى تعيش معه بنفس الشاليه بالقرية ..وكم تحمل احد اصدقائنا مشقة الذهاب بها لطبيب ليجهضها ..لكنه يواظب على الصلاة ، ويعتكف ليلا ليصلى الفجر حاضر ..ويحرص على اداء مناسك الحج كل عام
16
سادنى شعور أنى لن أراه مرة أخرى ..وكان شعوره بدنو الأجل قويا …قال لى وأنا اجلس معه بمستشفى الحميات بالأسكندرية …
– أنا حاسس إنى هموت يا أبوزيد …
– اللى زيك مابيموت ببساطة ..أنت نصبت على نصف سكان مصر ..ولن تموت قبل النصب على النصف الثانى ….ضحكنا ..لكن ضحكته كانت ممزوجة بالمرارة
…… …… ….. ………
طلب منى أخى علي أن أساعد طالب بكلية الحقوق بالصف الاول وانا كنت بالصف الثالث ..وتمنى علي ان تسمح ظروفى بالاسكندرية أن يقيم معى بالشقة التى اقيم بها .. وافقت واصطحبته معى …
جاء من قرية تبعد عن دسوق بحوالى ٢٥ كم ، قرية منسية لم تدخلها الكهرباء ..كان شديد الطيبة والسذاجة ..فحينما اصطحبته لشقتى قلت له : ستقيم معى فى غرفتى التى تحتوى على سرير كبير يسمح له بالنوم إلى جوارى مستريحا ..كان بحاجة إلى تلقينه ابجديات السلوكيات العادية مثل أن الملابس الداخلية لا تعلق على الشماعة ..
كانت الشقة مكونة من غرفتين ..الغرفة الكبرى بها ثلاثة من الزملاء وكانوا حشاشين ..أما انا فقد كنت اعمل بعد الظهر واعود عند منتصف الليل حاملا العشاء لى ولزميلى الجديد ، وزجاجة براندى رخيصة الثمن لزوم السهرة التى كنت اقضيها فى القراءة والاستماع لفيروز من خلال كاسيت صغير استعرته من أمانى طالبة كلية الآداب التى أصبحت خطيبتى فيما بعد …فى ليلته الاولى نام مبكرا واستيقظ قبل الفجر لأداء الصلاة ثم المذاكرة ..وعند السادسة والنصف صباحا فوجئت به يوقظنى سائلا : ألن تذهب إلى الكلية ..فنهرته وقلت له : لو كانوا يوزعون أموالا فى هذا الصباح المبكر بالكلية لما ذهبت ..لكنه وبعد مرور ثلاثة أيام على إقامته كنت استيقظ الساعة ١٢ ظهرا وهو مايزال نائما ..بل انه كان يدهن سيجارته الاولى بعد استيقاظه بقطرة من البراندى المتبقى من سهرة الامس …
وعندما حلت أجازة نصف العام سافروا جميعا وبقيت بمفردى .. كانت تزورنى سناء وهى صديقة من كلية الآداب وكنت أساعدها فى ترجمة قصائد شعراء الرومانتيكية الإنجليز ..شللى ، لورد بايرون ، جون كيتس ، وصمويل كوليردج الذى احببته كثيرا وبخاصة قصيدته العظيمة ( كوبلاى خان ) ..ويبدو ان بعض الجيران قد أبلغوا صاحبة الشقة التى حضرت اثناء نومى وفتحت باب الشقة بمفتاحها
ودخلت الى المطبخ واخرجت كل زجاجات البيرة الفارغة والبراندى والشيشة ، ووضعتهم على المائدة ..وظلت تلعن فى تربيتنا ، وسوء اخلاقنا .. استيقظت منزعجا ..طلبت منى مغادرة الشقة ..هددتها بإبلاغ الشرطة ..أشترطت عليها ان تدفع لى مبلغ التأمين رغم اننا أتلفنا كثير من محتويات الشقة هههههه ..وقد اذعنت لرغبتها فى الخلاص منا ..ناديت على اصدقائى بالعمارة المقابلة لمساعدتى فى نقل متاعى حيث كان لديهم غرفة كبيرة شاغرة تتسع لى ولصديقى لدى عودته من العطلة …
وقد اكتشف رفاقى الجدد ان صديقى مسكون بالخوف من العفاريت فكانوا يدبرون له المقالب التى اقنعته ان الشقة مسكونة بالعفاريت ..
إنتهى العام الدراسى وقد نجحت كالمعتاد بفضل تكتيك اعتكافى آخر شهرين من العام الدراسى ..ورسب صديقى للأسف ..ولم نلتق الى بعد حصولى على الليسانس ودخولى للجيش حيث استضافنى فى الشقة التى كان يقيم بها بصحبة زملائه لعدة ايام …ثم انقطعت صلتى به لبضعة سنوات عاد بعدها ليتمرن على المحاماة بمكتبى .
أصطحبت شقيقه معى من المستشفى لتعد له جيهان بعض الأطعمه ..بينما تتدافع إلى مخيلتى آلاف المواقف والذكريات .. فلقد ترك الاسكندرية إلى الغردقة وأفتتح مكتبا للمحاماة هناك ..وقد انتهز فرصة وجود بعض القضايا الكبيرة لدى صاحب قرية سياحية لأتولاها أنا …كان يمتلك ضحكة معدية لكل من حوله ..وعندما أتواجد بالغردقة كان يترك بيته ويقيم معى بالقرية ..نعمل سويا .. ونسهر ..ونشرب …ونعربد .. وعندما اتغيب فترة كان يتحجج بأى سبب ليحضر للاسكندرية .. كانت جيهان تقول لى انها لا ترانى اضحك من قلبى الا وانا معه ..
ظلت البلهارسيا كامنة منذ طفولته ، ثم أنتفضت فجأة فنهشت كبده بلا رحمة ..لم اجد فى نفسى شجاعة رؤية جثمانه مسجى فى المستشفى ..بل ولم أشيعه ..فإستيعاب موت الأحبة يحتاج سنوات طويلة ..كان يقاسمنى إحتمال سخافات الحياة ..وبرحيله صرت ملزما بتحمل سخف كل شئ بمفردى ..ومازال يقاسمنى كل شئ إلا المرارة … .