الدولة الحمدانية
ج ١
لا يمكن بحال تناول الدولة الحمدانية بمعزل عن الدور الذى لعبه عميدها ومؤسسها حمدان بن حمدون فى تاريخ الدولة العباسية ، وبخاصة فى العصر العباسى الثانى ..وهو مايحتم منهجيا تناول تاريخ الدولة العباسية وعرض الخطوط العريضة لسماتها وللمراحل التاريخية التى مرت بها قبل سقوطها المدوى فى بغداد على يد هولاكو سنة ١٢٥٨ميلادية ، ثم إعلان قيامها مرة اخرى فى القاهرة سنة ١٢٦١م وهذا يقتضى منا مبحثا نحاول من خلاله الإحاطة بها حتى سقوطها نهائيا على يد الغازى العثمانى سليم الأول سنة ١٥١٧ بسقوط القاهرة ..
فى هذا الجزء سنحاول التعرف على الحمدانيين ، من هم ؟ .. وعلاقتهم بسلطات مكة …
ينتسب الحمدانيون كما يقول بن خلدون إلى قبيلة تغلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار ( تغلب بن وائل بن قاسط بن ربيعة بن نزار ) وكان موطنهم فى الجزيرة وديار ربيعة ، وكانوا من نصارى العرب فى الجاهلية ، ولهم محل فى الكثرة والعدد ، وقد رحلوا من موطنهم مع هرقل إلى بلاد الروم ، ثم رجعوا إلى بلادهم . ( ابن خلدون _ العبر وديوان المبتدأ والخبر _ ج٣ _ بيروت ١٩٧١ ص ٢٢٧ ) .
ولإعتناقهم المسيحية فقد فرض عليهم الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجزية ، فقد قالوا يا أمير المؤمنين لاتذلنا بين العرب باسم الجزية وأجعلها صدقة مضاعفة ففعل ، وكان قائدهم يومذاك حنظلة بن قيس بن هرير من بنى مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب . ( وللمزيد انظر د. خالد محمد الفكى _ الدولة الحمدانية وأثرها على الخلافة الاسلامية _ رسالة دكتوراة مقدمة لكلية التربية قسم التاريخ _ جامعة الخرطوم _ الفصل الأول ) .
ولأنهم عرب اصلاء فقد استمروا يتنقلون بماشيتهم وأموالهم وخيامهم من تهامة إلى نجد إلى أرض ربيعة إلى ضفاف الفرات حيث نزلوا بسهل الرقة الفسيح، ومنه انتقل حمدان بن حمدون إلى الموصل .
وكان حمدان بن حمدون التغلبى هو جد الأمراء الحمدانيين ، وكانت القبائل الأخرى تنظر إليه بإحترام وتبجيل ..وقد أنجبت القبيلة عدة أبناء نشأوا نشأة عصامية وألقوا بأنفسهم فى ميادين المغامرة والحرب وكانت حياتهم تتصف بالضعف والقوة ولا تعرف الهدوء والسلام إلا قليلا . ( سامى الكيالى _ سيف الدولة وعصر الحمدانيين _ دار المعارف _ مصر _ بدون تاريخ _ ص ٣١ : ٣٢ ) .
وقد أنجب حمدان بن حمدون ثمانية أبناء هم : إبراهيم ، الحسين ، نصر ، عبدالله ، سعيد ، داود ، سليمان ، وعلى
ولعل أشهرهم هو عبدالله وكنيته ابوالهيجاء عبدالله الذى انجب الحسين ناصر الدولة ، وعلى سيف الدولة . ( على بن ظافر بن الحسين الازدى _ اخبار الدولة الحمدانية بالموصل وحلب وديار بكر والثغور _ تحقيق تميمة الرواف _ ط١ ١٩٨٥ _ دار حسان _ بيروت ص ١٢ ، فيصل السامر _ الدولة الحمداانية فى الموصل وحلب _ ج١ ط١ _ بغداد _ مطبعة الامان ١٩٧٠ ص ٤٤ )
وفى عصر الدولة الأموية حظى أبناء تغلب من الشعراء بمكانة عظيمة فى ظل الدولة الأموية وبرز منهم على وجه الخصوص الأخطل والقطافى وقد كانوا ما يزالون مسيحيين.
وقد ترافق ظهور الحمدانيين وبروز نجمهم مع ضعف الدولة العباسية وأفول نجمها ، وشهد الحمدانيون الأحداث التى هزت الدولة العباسية وأدت إلى إنفراط عقدها إلى دويلات وإمارات مستقلة فى أقاليمها المختلفة على يد الأتراك والفرس والكرد .
فقد ظهرت الأسرة الحمدانية للوجود السياسى والعسكرى إبان حكم المعتضد بالله الذى أرتقى عرش الخلافة سنة ٢٧٩ : ٢٨٩ هجرية الموافق ٨٩٣ : ٩٠٢ ميلادية ، حيث اعلن حمدان بن حمدون جد الاسرة الحمدانية الاستقلال فى قلعة ماردين سنة ٨٩٤ م فجهز المعتضد جيشا كبيرا سار به إلى ماردين ، وقد إستبسل الحسين بن حمدان فى الدفاع عن ماردين مما دفع بالخليفة إلى العودة للموصل وكتب الى حمدان يطلب منه الاستسلام والخضوع فرفض ذلك ، فما كان من الخليفة إلى العودة مرة أخرى لمهاجمة القلعة ، فسلمها له بن حمدان ، فقام الخليفة بهدمها بعد ان قام بنقل مقتنياتها إلى بغداد . ( سامى الكيالى _ مرجع سالف الاشارة ص٣٤ )
وقد ارسل الخليفة من يتعقب حمدان الذى كان قد لاذ بالقرار وطلب من احد الخوارج حمايته إلا أنه خانه وسلمه للخليفة الذى قام بسجنه . وفى تلك الأثناء ظهر أحد القرامطة واسمه هارون الشارى وكان رجلا مغامرا خاض حروبا عديدة مع العباسيين وهزمهم ولديه عدد كبير من الرجال الأشداء ، لذلك قرر المعتضد الإستعانة بالحسين بن حمدان الذى إشترط على الخليفة إطلاق سراح والده … وبالفعل نجح الحسين فى هزيمة هارون الشارى وأسره وإقتاده إلى المعتضد الذى سر بذلك واطلق سراح والده وطوق عنقه بالهدايا الثمينة وخلع على إخوته العطايا وأحسن إلى هذه الأسرة العربية وجعلها موضع رعايتة وعطفه .
وهكذا انخرطت الأسرة الحمدانية فى خدمة الخلافة العباسية وأستجاب الخليفة لطلب الحسين بن حمدان بتكوين جيش نظامى من تغلب ( قبيلة الحمدانيين ) وقد بلغ تعداد تلك الفرقة ٥٠٠ فارس يتقاضون رواتبهم من الدولة وقيادتها للحسين بن حمدان . وبفضل الحمدانيين أستطاع الخليفة كبح جماح القرامطة وكسرهم ، كما أستطاع بفضلهم إعادة إحياء القوة العربية .
وفى سنة ٢٩٢ هجرية / ٩٠٥ م إنضم الحمدانيون إلى قوات الخليفة المكتفى بالله وشارك أربعة من أبناء حمدان كقادة فى الحرب التى التى دارت بينهم وبين الطولونيين فأبلى الحمدانيون بلاءا حسنا وحققوا إنتصارا حاسما على هارون بن خماروية بن أحمدبن طولون ، ودخلوا مصر ، وقيل ان الخليفة المكتفى بالله عرض على الحسين بن حمدان ولاية مصر فرفض ذلك . ( فيصل السامر _ مرجع سالف الإشارة _ ص ٩٥ ) .
ولا يعرف على وجه الدقة تاريخ إعتناف الأسرة الحمدانية للإسلام ، بل وخلت كثير من المصادر من الاشارة إلى ذلك ..لكن المرجح انهم اعتنقوا الإسلام فى اواخر القرن الهجرى الثالث …أما عن علاقتهم بالتشيع فسنتناول ذلك فى سياقه .
هامش : قلعة ماردين هى من اقدم القلاع الحصينة التى أنشأها السومريون وأستخدمها البابليون والآشوريون والفرس والروم والأموريون والعباسيين ، وهى قلعة ضخمة مبنية فى موقع إستراتيجى يحمى ماردين من كافة الجهات حيث تمتد على ١ كم طولا و٣٠_ ١٥٠ مترا عرضا ، وقد بنيت على صخور طبيعية .
ماردين : هى من الأقاليم السورية الشمالية التى ضمت إلى تركيا بموجب معاهدة لوزان ١٩٢٣ بين تركيا من جهة وإنجلترا وفرنسا من جهة اخرى ومعظم سكانها من أصول سورية ( سريانية وعربية ) حالهم كحال اهل عنتاب واورفة وأضنة وديار بكى ومرعش وغيرها من المدن السورية التى اقتطعت من ارضها بموجب اتفاقات استعمارية ..واسم ماردين يعنى فى اللغة الارامية القلعة .