مقالٌ جديد يعرض للشأن الوطني من بوابة الأديان والإيمان، (هذا .. "بعضٌ كثيرٌ" .. مما فرض نفسه مقيماً فوق سطوره)، مقالٌ، توجب علي أن أخوض مراراً في تعديلاته، حذفاً، أو إضافةً، أوتأجيلاً، فأتى طويلاً، وربما، متأخراً بعض الشيء ، أرهقني وأرهقته، هو يبحث عن أجوبة للأسئلة التي نقبت عنها وما وجدتها ، عساه يلقى بعضها عندكم … مع خالص محبتي ومودتي .
مرورٌ على حواف الذكرى.
ماذا عساي أكتب اليوم في ذكرى الآلام والصلب والقيامة. كان ذلك منذ عقدٍ من الزمان، أذكر أن بركاناً من نوعٍ فريد، حممه حزنٌ بغير حدود، وغضبٌ بوسع الكون، وقهر لا تكفي لغسله محيطات. تفجر جميعه في دواخل صدري وقلبي يوم شاهدت فيلم " آلام المسيح .. للمخرج الرائع ميل جيبسون " للمرة الأولى، – رغم أنني حفظت قبلاً تفاصيل الحكاية الحقيقة عن ظهر قلب، وشاهدت نسخاً عديدة لغير أفلام تعرض للمناسبة والحدث العظيم – . ولن يكون بمقدوري أن أنسى جيش الأسئلة الحائرة التي هاجمتني ولاحقتني بعد العرض، تبحث عن إجاباتٍ بين العدم والمستحيل ، فتشت ونقبت عنها، وفشلت في إيجادها . كان ذلك الفشل إيذاناً بهجران عقلي لكل الساحات التي يتصارع فيها المسافرون نحو الله من خلال إثبات كل فريق أنه يمثل الحق و أن الآخر باطل ، وتسليماً لآخر معاقل عقلي في دفاعاته عن أية قضية خلافية دينية . عن تلك التجربة وما قبلها وما تلاها إن كتبت .. ما انتهيت . سأكتفي بهذا المرور على أن أتابع الكتابة في ذات الشأن محتفظاً بما أكتب لنفسي أو لساعةٍ يحين معها زمن نشره…
ظلال روح المسيح .. في سورية الأرض
كان ذلك منذ عقدٍ من الزمان، في الأمس وبعد سنواتٍ عشر تذوقت ذات الألم ، وأحسست بفجيعةٍ مضاعفة ساعة تابعت مشاهد صراع المحبة مع الكفر من خلال ذات الفيلم . لكنني هذه المرة، بدأت من حيث أردت أم لم أرد، أسمع في أقوال المخلص يسوع صدى وهمس الأرض السورية. كانت حاضرةً في كل تفصيل، في أشعار المحبة الخالصة، والافتداء والإيثار والغفران، كما في كل نظرات التحدي والأنفة والشموخ و الجلدة و التحمل و القوة الخارقة الإعجازية . في نزف دمائه، وترنح جسده، وتعثره، وفي عينيه التي نطقت من الكلام الصامت ما لا تتسع له مجلدات .. عن وضاعة بعض خلق الله، وإنعدام حسهم الإنساني، ووصولهم لما هو دون شريعة وحوش الغاب. نطق المسيح بروح الأرض السورية حين قال : أنا الطريق، ولا يجيء أحدٌ للرب إلا من خلالي. وردد صدى لواعجها ساعة قال : إن كنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي . صدق المسيح وصدقت الأرض فتلك المفردات البسيطة هي أساسٌ العلاقة بين الإنسان وربه من خلال الوطن… .
أيها البشر .. من لا يؤمن بالوطن شفيعاً ودرباً و حبلاً سرياً يصله بربه .. لا مكان لله في قلبه. لأن قلبه محجوزٌ لأحفاد شياطين وتجار الهيكل. أشعر أنكم بدوركم تشعرون، بل أؤمن أنكم تؤمنون، أن ذلك الإمتحان البشري القاسي تابع مسيرته عبر مراحل تاريخ شعوب هذه الأرض، وتجلى مراراً في فواجع وتجارب مماثلة يصعب حصرها، وهو اليوم يكمل طريقه في التجذر والتعمق والتمثل و التكرار، لكنه يأبى منذ ما يزيد عن سنواتٍ ثلاث إلا أن يلتهم عوضاً عن جسد المسيح عشرات الآلاف من أجساد السوريين، وأن يجلد عوضاً عن جسد المسيح أرواح كل من يركن الوطن إلى فيء قلوبهم . وأنكم ربما تؤمنون بحقيقةٍ لا تسر خاطر آخرين، وهي أن روح المسيح تتماهى مع إشراقة و ذرور شمس كل صباح، واحتجاب سناها في عتمة كل رواحٍ أو أصيل ، مع تراب الأرض السورية وملحها و مائها ، مع السماء التي تدفئها بشمسها حيناً، وتنبجس غدقاً عليها فتسقيها في غير حين، ومع كل ما يحلق حول أعمدة النور الواصلة ما بين الأرض السورية والسماء الإلهية من الأرواح الطاهرة .. قديمها وجديدها ..
بعد الآلام والصلب .. المسيح السوري إلى قيامة .
كما كانت جراحات المسيح لخلاص بني البشر من خطاياهم . كذا هي جراحات سورية لخلاص الكون من شرٍ مقيم .. من شياطين المنابر، و أفاعي الهيكل وتجاره، لم ترحل روح المسيح عن سورياه يوماً، لكنها ومنذ ما يزيد على سنواتٍ ثلاث، عانقتها في رحلة الخلود و الأبدية، نزعت الأشواك عن جبينه وتوجته بالمجد، وقلدت عنقه طوقاً من الياسمين، وعطرت قداسة جسده النازف بالبخور والرياحين. مسيحنا كان حتى سنوات ما قبل الألم الفاجع هو يسوع الناصري الذي "إستشهد" في سبيل المحبة ،هواليوم برضاه ورضا عاشقيه يتجلى في نزف جراحات الشهيد وذوي الشهيد والأرض التي سافرت روحه لأجل عيونها نحو السماء. مسيحنا السوري يجلد آلاف المرات كل يوم، وجلادوه اليوم أكثر وحشيةً من أجدادهم ، سكاكينهم تحز عنقه بدلاً من السياط التي هوت يوماً على ظهره، مسيحنا السوري يسحل في الشوارع، يرمى به من الأعالي، على الصخر أو في الماء، مسيحنا السوري لا يطعن برمحٍ في خاصرته، بل يفتح صدره ليلوك إبن الشيطان قلبه ويلتهم كبده، مسيحنا يحرق اليوم حياً في الأفران ويشوى رأسه المقطوع أو يغلى في قدرٍ ليؤكل، يذبح آلاف المرات، مراتٌ وهو لا زال جنينٌ في رحم أمه، ومراتٌ وهو في المهد رضيع، مراتٌ وهو بالكاد يحبو ويغني للبراءة ، ومراتٌ وهو في مدرسته يراقص الكلمات. كم من مسيحٍ عندنا ذبح وهو لم يبلغ بعض سن الرشد؟ وكم من مسيحٍ لا زال ينتظر زمن الصلب، ويتحدى الجلاد والصليب؟ .. .
عذراؤنا القديسة الحبيبة مريم .. هلا عذرتنا إن سافر بنا الكلام إلى ما قد يحرجنا أمام طهر جسدك وملائكية وجهك؟ هلا صدقتنا إن قلنا أنا نراك كل يومٍ بيننا؟ أنت مقيمة في قلوبنا يا حبيبة، في كل البيوت الفقيرة البائسة التي عشعش الألم على أسقف وجدران أرواح ساكنيها، تغزلين الشمس أهزوجةً إفتداءٍ للرب ورسول الرب وأرض الرب وجند الرب. وتكتبين معلقاتٍ في المحبة والعطاء، وترسمين ملامح مهجة روحك وفلذة كبدك أيقونةً من السحر الإلهي، يا من صلبوا لك إبنك الفادي، نبض قلبك أمام ناظريك، فكان صمتك ودمعك، جوابك. جللٌ هو الحدث يا حبيبة المؤمنين والمؤمنات جلل. هل تسمحين لنا بسكب ما في قلوبنا وعقولنا في بحر آلامك؟ . هل تعلمين أن بيننا قديساتٌ صلب لهن من أبنائهن أربعة؟ وأن بيننا أخريات كان نصيبهن من الفقد ثلاثة،
وأن غيرهن قدمن على الصليب كرمى للرب الساكن في الأرض كما في السماء من أبنائهن إثنين، وأن آلافاً غيرهن تفخرن اليوم بأنهن أمهاتٌ لشهيدٍ عانقت دماؤه طهر طيف روح المخلص بين ذرات التراب السوري المقدس. ما قولك يا قديسات القديسات، أيتها الشفيعة المباركة، بجثامين تبني في عمق الأرض السورية أساساً لقيامة وطن؟ وطنٌ يستوحي من روح المسيح أسرار معركة المواجهة مع الشياطين، ويستنسخ صبر المسيح على الجلد، في وطنٍ يجلد بسياط الكفر والعهر كل يوم مراتٍ ومرات ؟ في وطنٍ آتيةٌ لا ريب قيامته من رحم الألم والموت كما كان للمسيح قيامته من ظلمات المغارة.
هل نجح " المخلص " في مسعاه؟ هل أوصلته درب الآلام إلى غاياته؟ كم من البشر بات نقياً خالياً من الخطايا؟ لو قيض لنا أن نسأل المسيح اليوم .. هل كان ليفعلها لو عاد بروحه الزمان " 1981" سنة إلى الوراء، فيسير بقدميه نحو من يعلم أنهم سيكونون جلادوه الذين سيعلقونه على خشبة الصليب؟ هل كان سيسلك ذات درب الآلام لتخليص الإنسان من آثامه وخطاياه ؟ هل كان سيفعل إن شاهدت عيناه الكفر المستشري على مساحة الأرض؟ الكفر الساكن لأرواح وعقول ساكنيها، هل كان ليفعل إن علم أن سمو الهدف يغتال كل يوم على أيدي أحفاد من نزف دمائه وروحه لأجل خلاصهم؟ قد يتمنى أحدكم أن يستوقفني الآن ليقول : كان خيار الرب وكانت مشيئته. ليجبرنا على إعادة ترتيب كلمات السؤال بهدوء، لنوجهه للرب فنسأل : هل كان سيضحي بإبنه لأجل إتمام المهمات المستحيلة؟ يقيني، كما يقين بعضكم أنه كان حينها سيطرق ملياً، ويفكر ملياً، قبل الإجابة. نقول له ختاماً : لا تغفر لهم يا سيدنا وأبانا وربنا، وإن أنت فعلت، فلن نفعل نحن، لأنهم يعلمون جيداً ماذا يفعلون ويصنعون، وهل تفعل الشياطين ما لا تعلم وتدرك؟ .. هل يستجيب الرب لمطلبنا؟. قد تنبأ أرواحنا أرواح غير أجيال عن الإجابات المستحيلة، لكن ما نحن واثقون منه، أن لمسيحنا السوري المتجسد في الأرض وأرواح عشاقها وجنودها وشهدائها قيامة جديدة، و كما كان له ولأرواح أجدادهم من خلالها القيامة الأولى، وما تلاها من قياماتٍ، كذا سوف يكون هذا الكون على موعدٍ حتمي مقدس لقيامةٍ جديدة للمسيح السوري .. المسيح الذي يهز صمود أبنائه وجيشه أركان الكون، بهزاتٍ تحاكي تلك التي تلت صلبه . المسيح الذي يهدم صموده أعمدة هيكل الشياطين فوق رؤوس مشائخه وأتباعه . المجد لمسيحنا السوري الأصيل .. ولكل الأرواح التي سافرت نحو ملكوته من خلال إفتداء طيفه وظله .. الأرض السورية المباركة .. .