رحل الشاعر السويسري الفرنكوفوني فيليب جاكوتيه، في 24 فبراير الماضي وبرحيله تنطوي صفحة جيل كامل من الشعراء الكبار الذين جددوا الشعر الفرنسي مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية.
هو من مواليد مدينة مودون السويسرية في 30 يونيو 1925 .
نشأ وتعلم في مدينة لوزان. أما دعوته الشعرية فتحددت باكراً إثر لقائه بمواطنه الشاعر غوستاف رو الذي أصبح بسرعة صديقه ونموذجاً للشعر الذي سيكتبه لاحقاً، ثم بمواطنه الآخر، الناشر هنري لوي الذي كلفه بترجمة “الموت في البندقية” لتوماس مان ونشر ديوانه الأول “نشيد الموتى” (1947) الذي استوحاه من صور مقاومين شبان قُتلوا على يد النازيين في جبال الفركور الفرنسية. وبعد فترة قصيرة من التجوال في إيطاليا عام 1946، تصادق خلالها مع غوزيبي أونغاريتي، استقر في باريس لمدة سبع سنوات اكتشف أثناءها، محيطها الأدبي ونسج علاقات وثيقة مع فرنسيس بونج وهنري توما وبيار ليريس الذين لعبوا دوراً مهماً في نضجه الشخصي والشعري. وبعد صدور ديوانه “البومة” عام 1953 وزواجه من الفنانة التشكيلية آن ماري هاسلر في العام نفسه، قرر الابتعاد عن صخب باريس، واستقرنهائياً في مدينة غرينيان التي تقع في مقاطعة دروم الفرنسية.
في هذه المدينة الصغيرة، عثر جاكوتيه على نفسه وعلى ما يكفي من السكون والطمأنينة لتوزيع وقته بين عمله في الترجمة والنقد الذي سمح له بسد حاجات عائلته، وعمله الكتابي الشخصي. ومن عمله الأول الجبار، انبثقت ترجمات مجيدة لا تحصى لأكبر الأسماء الشعرية والأدبية، نذكر منها، ريلكه، هولدرلين، أونغاريتي، غونغورا، ماندلشتام، موزيل، من دون أن ننسى “الإلياذة” لهوميروس التي ترجمها منذ عام 1955 وما تزال تُعد حتى اليوم الترجمة المرجعية باللغة الفرنسية. عمل احتل مكانة مهمة في حياته وتتجاوز ثماره، على مستوى الكم، إنتاجه الشعري الغزير. ومع أن الحاجة هي التي أملته، لكنه لم يكن أبداً نشاطاً ثانوياً، بل شكل جزءاً لا يتجزأ من مشروعه الكتابي. وما إصداره عام 1997 كتاب “من قيثارة بأوتار خمسة”، الذي يجمع ترجماته من عام 1946 وحتى عام 1995، سوى دليل على الأهمية التي اكتساها هذا النشاط في نظره.
ثم لجأ إلى كتابة نثر تأملي مثل “نزهة تحت الأشجار” أو “عناصر حلم يقظة” أو “مناظر مع وجوه غائبة”،
ولكن انطلاقاً من “مناخات” (1967)، تعاقبت نصوصه الشعرية والنثرية، قبل أن تختلط مع تأملات واستذكارات وتدوينات داخل كتاب واحد، كما في “دفتر خضرة” (1990) أو في “ذلك الضجيج الخافت” (2008).
وضع جاكوتيه 53 كتاباً شعرياً ونثرياً و15 بحثاً، إضافةً إلى مراسلاته. وعلى المستوى الشكلي، كتب الشاعر أبياتاً أو نصوصاً نثرية قصيرة .
في عام 2014، جُمعت أعمال جاكوتيه الشعرية وصدرت في سلسلة “لا بليياد” العريقة عن دار “غاليمار”. وهو تكريم لم يحظ به وهو حي سوى الشاعرين سان جون بيرس ورينه شار. وعلى الرغم من الجوائز المهمة الكثيرة التي توجت عمله، رفض الشاعر أن يصبح “شخصية رسمية”، وفضل على ذلك “البقاء خفيفاً”، وتمنى مراراً لو أنه بقي مجهولاً على غرار شعراء الهايكو اليابانيين الذين كرسوا حياتهم، مثله، لالتقاط العلامات. لكن هذا لا يعني أن تسمية “ناسك غرينيان” التي ألقيت عليه صحيحة. فجاكوتيه أحب العالم وجال في أرجائه بلا كلل، فزار جزيرتي مايوركا وإيبيزا، وحط في نيويورك، وقصد مراراً شمال إيطاليا وصقلية، وتوجه إلى اليونان وروسيا، قبل أن يحضر إلى لبنان وسوريا عام 2004 ويخط في ربوعهما كتاباً رائعاً صدر عام 2015 بعنوان “النار الهادئة”.
إعداد : محمد عزوز
عن ( صحف ومواقع )