ولد الكاتب ميخائيل بولغاكوف في كييف في 15 مايو 1891 في عائلة بروفسور في أكاديمية كييف الدينية. وعاش طفولته وشبابه في مدينة كييف. انتسب إلى كلية الطب في جامعتها عام 1909 وتخرج منها عام 1916 مع شهادة طبيب معالج بدرجة امتياز.
وفي كييف بدأ يدغدغ الكاتبَ الحلم باحتراف الكتابة. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى كانت شخصية بولغاكوف قد تبلورت بشكل كامل. بعد تخرجه من الجامعة عام 1916 عمل بداية في مستشفيات الصليب الأحمر على الجبهة الجنوبية الغربية. ومن هناك تم استدعاؤه للخدمة الإلزامية، ليتم فرزه في منطقة سمولنسك حيث عمل في البداية طبيباً في مستشفى القرية، ومن ثم اعتباراً من أيلول عام 1917 في مستشفى مدينة فيازما. وقد شكّلت تلك الأعوام مادة لثماني قصص كتبها بولغاكوف وصدرت في عام 1925 ضمن سلسلة " مذكرات طبيب شاب ". وكان قد بدأ العمل في كتابتها هناك في مقاطعة سمولنسك، مضيفاً إليها بانتظام انطباعاته من اللقاءات مع المرضى.
لقد مرت أحداث عام 19177 بشكل غير ملحوظ تقريباً بالنسبة للطبيب الريفي بولغاكوف. وأما سفره إلى موسكو في خريف ذات العام فلم يكن نابعاً من اهتمامه بتلك الأحداث، كما حاول أن يلصق به ذلك بعض كتبة السيرة وبحسن نية، وإنما لرغبته في التخلص من الخدمة العسكرية ومن دائه الخاص، الذي قام بتوصيفه بالتفصيل في قصته " مورفين " التي تم نشرها ضمن تلك السلسلة المذكورة أعلاه.
ولم ينشأ احتكاك بولغاكوف مع أحداث الثورة والحرب الأهلية سوى في مدينته كييف التي عاد إليها في آذار عام 1918. إذ لم يكن ممكناً البقاء على الحياد من الأحداث السياسية في ظروف التبدل المستمر للسلطة في أوكرانيا خلال العامين 1918 – 1919. وقد أشار الكاتب نفسه إلى ذلك عندما كتب في إحدى الاستمارات ما يلي : في عام 1919 أثناء إقامتي في كييف، تكررت دعوتي للخدمة كطبيب من قبل مختلف السلطات التي كانت تشغل المدينة ".
والدليل على الأهمية المحورية لتلك الفترة الممتدة عاماً ونصف في إبداع بولغاكوف يمكن أن نستشفه من روايته " الحرس الأبيض "، ومن مسرحيته " أيام آل توربين" ومن قصته " مغامرات طبيب غير عادية " عام 1922. وبعد استيلاء قوات الجنرال دينيكن على مدينة كييف في أغسطس/ آب عام 1919 تم استدعاء بولغاكوف للخدمة في الحرس الأبيض، ومن ثم تم نقله للخدمة كطبيب عسكري إلى شمال القوقاز. وهنا تم نشر أول مادة له – مقالة صحفية تحت عنوان " آفاق المستقبل" عام 1919. وقد كانت هذه المقالة مكتوبة انطلاقاً من موقع رفض "الثورة الاجتماعية العظيمة " التي أوقعت الشعب في معمعة من المآسي والمصائب وكانت تنذر بعواقب وخيمة وبجزاء كبير من جرائها في المستقبل. لم يتقبل بولغاكوف الثورة، لأن سقوط القيصر بالنسبة له كان يعني سقوط روسيا ذاتها بدرجة كبيرة وسقوط الوطن كمصدر لكل ما هو منير وعزيز في حياته. وفي أعوام الانهيار الاجتماعي حسم الكاتب خياره الرئيسي والنهائي: تخلى عن مهنة الطب وكرّس كل حياته للعمل الأدبي. وخلال عامي 1920 – 1921، وأثناء عمله في مديرية الفنون في مدينة فلاديقوقاز التي كان يرأسها الكاتب سليزكين، تمكن بولغاكوف من تأليف خمس مسرحيات تم إخراج وعرض ثلاث منها على خشبة المسرح المحلي. وقد قام المؤلف فيما بعد بإتلاف هذه التجارب الدرامية التي ألفها، كما قال، على عجل، في زمن " المجاعة ". ولم تحفظ نصوصها، ما عدا واحدة بعنوان " أولاد الملا ". وقد تعرض الكاتب هنا لأول صدام مع النقاد " اليساريين " أصحاب التوجه البروليتاري في الثقافة، والذين هاجموا المؤلف الشاب على تمسكه بالتقاليد الثقافية المرتبطة بأسماء بوشكين وتشيخوف. وقد حكى الكاتب عن تلك الفترة من حياته في مدينة فلاديقوقاز في قصته الطويلة " مذكرات على الأكمام " عام 1923.
و في آخر أيام الحرب الأهلية، ولم يكن قد ترك القوقاز بعد، كان بولغاكوف مستعداً لمغادرة الوطن والسفر إلى الخارج. ولكن بدلاً من ذلك نراه يظهر في موسكو في خريف عام 1921 ليبقى فيها إلى الأبد. وعلى الأرجح أن ذلك لم يكن ليحصل من دون تأثير الشاعر أوسيب مندلشتام، الذي التقاه في أواخر أيام تواجده في القوقاز. وقد كانت أولى أيام بولغاكوف في موسكو صعبة جداً، لا من حيث الإقامة والحياة وحسب، بل ومن الناحية الإبداعية أيضاً. إذ كان مضطراً للقيام بأي عمل لكي يعيش. ولكن مع الوقت أصبح بولغاكوف كاتب مقالات هجائية في عدد من الصحف الموسكوفية وجريدة " ناكانوني" التي كانت تصدر في برلين. وقد نشر له الملحق الأدبي لتلك الجريدة، بالإضافة للقصة الطويلة آنفة الذكر " مذكرات على الأكمام "، القصص التالية: " مغامرات تشيشيكوف "، " التاج الأحمر" و" كأس الحياة " (جميعها صدرت في عام 1922). ومن بين الإصدارات المبكرة، التي كتبها بولغاكوف أبّان مرحلة العمل الصحفي ، ثمة قصة " نار الخان " (1924) التي تتميز بمستوى فني رفيع.
.
لقد عاش بولغاكوف سنواته الأخيرة مع إحساس بأن مشواره الإبداعي قد مضى سدى. ومع أنه استمر في عمله بهمة عالية واضعاً عدد من الأوبرا (" البحر الأسود" ” عام 1937، " مينين وبوجارسكي "عام 1937، " الصداقة " عام 1938، " راشيل " عام 1939، وغيرها.
وهكذا مات بولغاكوف في موسكو في 10 مارس 19400 بعد أن أحرق مخطوطة رواية "المعلم ومرغريتا " التي أنقذتها فيما بعد زوجته لترى النور متأخرة حوالي ثلاثة عقود عن تاريخ ميلادها الحقيقي، وليستمتع بها ملايين القراء في العالم ولتضاف بذلك درة أخرى إلى درر الأدب الروسي والعالمي. وحتى بعد نشر مسرحياته وروايته "المعلم ومرغريتا " فإن بولغاكوف لم ينل حقه من الاهتمام من قبل النقاد والمؤسسات الرسمية السوفيتية. بل إن تعتيماً ممنهجاً كان يفرض في المرحلة اللاحقة على الكاتب وعلى إبداعه في الاتحاد السوفيتي السابق. إذ لم يفرج عن أعماله في الاتحاد السوفييتي السابق بشكل رسمي قبل انطلاق البيريسترويكا.. اللهم باستثناء العرض المتكرر لمسرحية " ايام آل توربين " كما أسلفنا. والبرهان على ذلك هو أن السلطات الرسمية الروسية لم تقرر افتتاح متحف الكاتب سوى في آذار من عام 2007 !! حيث صدر قرار عن حكومة موسكو بتحويل البيت الذي كان يقطن فيه بولغاكوف إلى متحف. وأظن أن ذلك ما كان ليتم لو لم تتبرع سيدة روسية بالأشياء التذكارية والوثائق التي تعود للكاتب.
إعداد : محمد عزوز