اليوم ما قبل الأول ؛ توقفت المدينة فجأة عن الجريان ؛ كانت الغيوم تعبر من فوق أوراق الخريف التي استطاعت أن تتمسك ببقايا أغصانها ؛ رافضة أن يقال عنها إنها أوراق ساقطة ..
حاولت أن تنثر ريحاً من روحها اليابسة ؛ فلم تستطع ؛ فتوقفت عند سور الحديقة الحزينة …
كان ما يزال يعبر من موته إلى موته الجديد ؛ حين قالت له ؛ وبفمها الممتلئ صراخا ؛ إن كان لك شيء عندي خذه ..
دموع النوافذ تتساقط على الأشعة فتصبح نارا ؛ والقلوب التي لفترة ليست بالقصيرة , كانت تتعانق على ضوء الإله ؛ وهو ينفذ من بين شقوق العمر المتهالك على عتبات هذا الزمن ..
من قال لك ؛ إن الرصيف لا يعرف العشق ..
كان شيئا غريبا ؛ أن تتصاعد الأنفاس كلما التقيا على خط الجبهة الأول ؛ تمسك ببندقيته وهي تغني له حينا بصوت استعارت نصفه من الملائكة , وحينا بنصفه الآخر الذي قُدَّ من حفيف الشجر حين تتعانق النسمة مع الدِيَمِ العابرة من فوق رأس كل الحكايات القديمة التي أقضّت مضاجع القمر ..
أمسكتْ كتاباً آخر وبدأت ترقص على إيقاع الكلمات ؛
سِفر الرجوع للحياة هو أول فصل للقراءة والكتابة ..
أريد موسيقا , قال ذلك وهو يتنشوَحْ من هول ما زفر من هواء رئتين كانتا مستودعين لكل أحزان هذا العالم السافل حتى القرف ..
قالت للضوء هل تعزف نشيدك ؛ حينها بكت شمعة حمراء صغيرة ؛ كانت تنتصب خجلة من وحدتها هناك بلا شريك ..
صوتٌ مدوٍّ ذاك الذي جعل البناء يضحك ,
والنافذة البنية المغطاة بالستائر العاجية ,صارت ترقص , وكأنها تهلل لهذا الفرح …
الجوع قارب وقت الصلاة ؛ حين بدأا إعداد وجبة الحياة المقبلة ؛
حالا سأحضر الفطور ..
إنني أتضور حد نسيان أين أنا ؛ كم أحتاج أن أحمل ذاكرتي معي , وأنا أقف هناك خلف المرصد ؛ أراقب أعين العدو وهي تتلصص عليّ …
ماذا سيحدث لو اقتربوا من حدود حلمي أنا الغريب
لا أعرف , ولا أحد يعرف
هل كنت تعرفين أنت قبل ذلك الياسمين المتناثر على خدّك , قبل أن تمسكي به دفعة واحدة لتنثريه على كفي من وراء مسند الكرسي ..
أنا كنتُ أعرف , هل كنت حقا تعرفين ؟
كنت أشعر حينها أنني أصبحت رجل فضاء, بينما القصيدة التي حبلت بدمعة فأنجبت الحلم ..
أمسك بندقيته ؛ وهو ينظر من خلف الساتر
لا أحد .. لا أحد .. يبدو أنهم استنفروا دفعة واحدة بكل ما أوتيت حروفهم من وطن ؛ فصدّوا أول هجوم اعتباطي من وراء الشاشات الفضية مختلفة القياسات ..
من قال إن تولستوي كان حائرا حينها ؛ وما الذي جاء به من دياره إلى ذلك اليوم .؟
كان أطيب مربى يتناوله لقلبي ..
يا إله السموات ؛ ما هذا الفطور الملائكي ,
أقسم بالله ما كان ابن زيدون مع ولادة بنت المستكفي ؛ بأفضل مني وأنا أعيش في الزهراء ..
آه ما أقسى حزنك يا زهراء …
ومع ذلك سيظل حزني كبيرا ولن ينتهي … حلمي لن ينتهي إلا بلحاقي بكل الذين سبقوني …
كانوا ستة أطفالٍ من عائلتين , أربعة منهم إخوة , أكبرهم في الصف الثالث ؛ بحاجة لغرفة العمليات فورا , وأصغرهم رضيع …أما الطفلان الآخران فكانا أولاد عمهم أيضا .. واحد رضيع والثاني أكبر منه بسنة ..
ألو .. ألو عمتي ..
كانت دموع الكون كلها لا تكفي حينها ؛
عمتي .. يا عمتي .. ألو يا عمتي
مات البابا وماتت الماما .. ومات عمي وزوجته ..
إهدأ .. أرجوك إنسى ..إنسى
لا حاجة لتتذكر هذه الأحداث الآن ..
أمسكت بيده , وقبلتها وهي تضع رأسها على حجره ؛ وصارت تمررها على ذكريات العمر السعيد , عساه يخرج من حالته تلك ؛ وحين تمكنت عيناه من إغلاق مجرى النهرين المالحين في حروفه؛ أمسك رأسها بين يديه وهو يقول ..
شكرا يا إلهي أن منحتني بقية من حروف أنثرها لأبقى إنسانا ما استطعت إلى ذلك سبيلا
……..
من روايته الثانية ( تسعة عشر يوماً في الأربعاء الأسود )